روسيا تتحسّس من “ديانِت” تركيا: ملامح خلاف سياسيّ؟

30 مايو 2021
روسيا تتحسّس من “ديانِت” تركيا: ملامح خلاف سياسيّ؟
عماد الشدياق
عماد الشدياق

على الرغم من أنّ عملها محصورٌ بـ”تقريب مبادئ الدين الإسلامي من الجمهور، وتمكينه من فهم قيم العدالة والفضيلة”، إلاّ أنّ رئاسة الشؤون الدينية التركية، المعروفة باسم “ديانِت”، تحوّلت على مدى العقود الثلاثة الماضية إلى ما جمعية عابرة للقارات تتوسّع وتنتشر بين شعوب دول العالم من أجل التأثير عليها سياسياً من المدخل الديني.

أثار هذا السلوك حفيظة عدّة دول، لكنّ اللافت والمستجدّ هما الحساسية التي بدأت أخيراً تُبديها موسكو من نشاطات “ديانِت” بين مسلمي دول روسيا الاتحادية، على الرغم من التقارب بين روسيا وبين تركيا، والتحالف السياسي الذي يجمع الدولتين في أكثر من ملفّ في المنطقة، أبرزها أنابيب الغاز الروسية التي تصل إلى العالم عبر الأراضي التركية.

تكشف مصادر مقرّبة من دوائر القرار الروسي لـ”أساس” أنّ “موسكو تتوجّس من محاولات “ديانِت” التأثير والسيطرة على المديريّات الروحية الإقليمية لمسلمي روسيا، وذلك من خلال ما تعتبره موسكو دعماً ماليّاً خفيّاً، تنفقه على تمويل المشاريع، ومساعدة بعض المسلمين الذين تختارهم بعناية لتنفيذ مشاريعها”.

تلفت المصادر الروسية إلى أنّ “ديانِت ترسل أئمةً أتراكاً إلى مساجد في مناطق الاتحاد الروسي التي يقطنها سكّان ناطقون باللغة التركية، وذلك في عدّة مناسبات، مثل شهر رمضان وعيديْ الفطر والأضحى، فتنشر أفكار الوحدة التركية، وتؤثِّر على حياة المسلمين الروس في شمال القوقاز، وفي مقاطعات الفولغا الفيدرالية (منطقة من 7 مناطق تشكّل الاتحاد الروسي)”، وهو ما تتخوّف من تبعاته السلطات الروسية.

وتعتبر المصادر أنّ “ديانِت” هي “أداة ناعمة تستخدمها أنقرة لتحقيق أهداف القومية التركية، فتنظّم الدورات التدريبية المجانية، وتقيم الحلقات الدينية من أجل غرس شكوك ضدّ القيادة السياسية، في نفوس مواطنين روس، من خلال تزكية طروحات تحاكي غياب الديموقراطية وارتفاع منسوب انتهاكات حقوق المواطنين”.

لا تتردّد موسكو في إظهار توجّسها من هذه النشاطات، فتعتبرها “مدخلاً رئيساً لاختراق مواطنيها المسلمين، ومحفّزاً لإمكان تسلّل التنظيمات الإرهابية والمتطرّفة إلى الروس، وذلك عن طريق البيئة التعليمية، والحركات الطلابية، والحلقات الدينية”.

تنظر دوائر القرار الروسي “بعين الريبة” إلى نشاطات “ديانِت”، في بلدان آسيا الوسطى أيضاً، حيث ترى فيها “محاولات لغرس هوية غريبة عن هوية شعوب المنطقة”، من خلال العديد من المؤسسات التعليمية التي تتبع على السواء: الحكومة، “حزب العدالة والتنمية”، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وعدوّه اللدود، صديقه السابق الداعية فتح الله غولن، وخصوصاً في دول مثل كازاخستان وقيرغيزستان.

تؤكّد المصادر الروسية أنّ “ديانِت تدرّب في قيرغيزستان الأئمّة، على يد مدرّسين أتراك في كلية الجيولوجيا في جامعة أوش، وتتكفّل أيضاً بإرسال طلاب على نفقتها من آسيا الوسطى إلى المراكز الدينية في تركيا. وتبني المساجد في بيشكيك (عاصمة قيرغيزستان)، وفي نور سلطان (كازاخستان) وفي مناطق سيميبالاتينسك وتركستان، وتخرِّج رجال الدين والقادة الدينيين المؤيّدين لأنقرة الذين يندمجون تدريجياً في المجالات السياسية لدول آسيا الوسطى”. وتتّهم موسكو تركيا بدعوة ممثّلي المديريات الروحية لمسلميها إلى الأراضي التركية، بشكل سنوي، من أجل “معالجتهم إيديولوجياً”.

و”ديانِت” هي واحدة من أقوى المؤسسات العامة في تركيا، ويبلغ عدد موظفيها نحو 130 ألفاً، بموازنة قُدّرت في عام 2019 بنحو 1.5 مليار يورو (أكثر من موازنة وزارة الداخلية التركية). أُسِّست لخدمة الفقراء، لكنّها تحوّلت مع الوقت إلى البحث عن الاغتناء الذاتي، فباتت تجني ملايين الدولارات من أنشطتها التجارية، من خلال الإشراف على أنشطة تربوية وثقافية وخيرية واقتصادية في نحو 145 دولة، ولا سيّما فرعها المسمّى “تركيا ديانت فاكفي” الذي يدير العديد من المتاجر والأنشطة المربحة. وممّا زاد من أرباحها إعفاؤها من الضرائب منذ عام 1977. وتمارس النشاطات العقارية من خلال شركة “كوماس أ.س”، فتبني المدارس والمساجد والمستشفيات والفنادق.

لكنّ السؤال الذي يُطرح: لماذا تتحسّس روسيا من “ديانِت” عموماً؟ وهل تأثيرها على مسلمي روسيا كبير إلى هذا الحدّ؟ ولماذا اليوم تحديداً؟

تُعدّ الأرقام والإحصاءات أصدق إجابة عن هذه الأسئلة. فالدين الإسلامي هو الثاني في روسيا الاتحادية بعد المسيحية، إذ يبلغ عدد المسلمين، بحسب آخر الإحصاءات، نحو 14.5 مليون، أي قرابة 10% من عدد سكان الاتحاد الروسي. وهم الأغلبية في 7 أقاليم روسية هي: إنغوشيا (98%)، الشيشان (96%)، داغستان (94%)، قبردينو- بلقاريا (70%)، قره شاي – شركيسيا (63%)، بشكيريا (63%)، وتتارستان (54%). ويزداد عدد المسلمين سنوياً، بسبب معدل المواليد المرتفع في هذه الأقاليم، ومعظمهم من “أهل السنّة”، ومن أتباع المذهبيْن الحنفي والشافعي والطريقة الصوفية التي يتّبعها الأتراك، وهذا ما يسهّل اختراقهم.

ولا ضيم من التذكير بأنّ موسكو خاضت في العقود الماضية صراعات ضد جماعات تمرّدوا على الدولة المركزية من خلال طروحات دينية وقومية، وخصوصاً في مناطق القوقاز المسلمة، وقد استطاعت تنظيمات إرهابية، مثل “القاعدة”، ثمّ لاحقاً مثل “داعش”، استقطاب عدد من أهل هذه المناطق.

وعليه، تتوجّس موسكو من دخول التطرّف إلى أراضيها. صحيح أنّها لا تتّهم “ديانِت” بالتطرّف، لكنّها تخشى من أن تكون “ديانِت” مدخلاً أو ممرّاً إليه، وخصوصاً أنّ موسكو كانت على الدوام تتطلّع إلى مواجهة التصوّر السائد بأنّها معادية للإسلام، السنّي منه تحديداً، وهي المتّهمة دوماً بمتانة علاقاتها بـ”إيران الشيعية”.

قد تحمل هذه المؤشّرات تحسّساً دينياً روسيّاً تجاه تركيا. هذا في الظاهر، لكنّ الباطن قد يُشير إلى ما يشبه بداية تراجع العلاقة السياسية بين الطرفين.

فهل تكون “ديانِت” مدخلاً إلى التمايز السياسي بين أنقرة وموسكو؟

وهل من ملفات سياسية أخرى، ما زالت مخفيّة، تحمل بذور خلافات كهذه؟

… للحديث صلة.

المصدر أساس ميديا