بينما كان البنك الدولي يصدر تقريره عن لبنان، وفيه أنّ أزمته الاقتصادية والمالية تُصنّف من بين أشدّ عشر أزمات، وربّما بين الثلاث الأسوأ، منذ منتصف القرن التاسع عشر، كانت عملية تشكيل الحكومة المستعصية منذ نحو ثمانية أشهر تصطدم من جديد بحائط التعطيل الممنهج، الذي يحاول النائب جبران باسيل تحويله إلى فضيلة من الفضائل السياسية للعهد.
هي حلقة جديدة من الدراما اللبنانية، حيث يتزامن أقصى التأزّم الاقتصادي الاجتماعي مع أقصى التعطيل السياسي، لا بل مع اللامبالاة السياسيّة بحجم المأساة الاجتماعية.
وهو ما يعزّز الاعتقاد المقيم بأنّ أفرقاء اللعبة يبنون جداراً صلباً بين حساباتهم السياسيّة الشخصيّة وجهنّم التي بشّر بها الرئيس ميشال عون، وما لبث البلد أن بلغها، وكأنّ نارها لا تطولهم، وبالتالي هم يكملون لعبتهم وكأنّ شيئاً لم يكن.
بات المسرح السياسي معزولاً كلّيّاً عن المجتمع.
تماماً كما يحصل في أيّ نظام ديكتاتوريّ، حيث تدور الأحداث السياسيّة بمعزل عن أيّ تأثيرات اجتماعية، لأنّ الديكتاتورية تقوم لحظة تمكُّن السلطة من إلغاء المجتمع.
وفي الحالة اللبنانية فإنّ قدرة السلطة على تجاوز الانهيار، بوصفه ضرراً بالغاً على المجتمع، هي بمنزلة إلغاء للمجتمع، لكنّه إلغاء ينطوي على مفارقة.
إذ إنّ دينامية العداء المطّردة داخل المجتمع ضدّ السلطة تعاند محاولتها لإلغائه. لكنّها معاندة تفتقر إلى شروط رئيسة تمكّنها من قلب المعادلة، أي أن يُلغي المجتمع السلطة، في حين أنّ السلطة تمتلك حتّى الآن شروط تجاوز المجتمع أو إلغائه في تجلٍّ واضحٍ للديكتاتورية اللبنانية المقنّعة.
هي حلقة جديدة من الدراما اللبنانية، حيث يتزامن أقصى التأزّم الاقتصادي الاجتماعي مع أقصى التعطيل السياسي، لا بل مع اللامبالاة السياسيّة بحجم المأساة الاجتماعية
لذلك بات من الممكن الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، إيجاد أوجه شبه رئيسة بين الوضعين اللبناني والسوري. ففي سوريا جرت الانتخابات الرئاسية وكأنّها لم تجرِ.
فكلّ الانتخابات وعروضها الشعبية والسياسية، إنّ دلّت على شيء فعلى انعزال المسرح السياسي السوري عن أيّ تأثيرات اجتماعية.
وتصادف هذه الأيام الذكرى السادسة عشرة لاغتيال سمير قصير صاحب مقولة “ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان”، وفي هذه المناسبة يمكن الآن، في ظلّ وجود حزب الله في سوريا وانهيار الديموقراطية اللبنانية، قلب هذه المقولة لتصبح: “ديموقراطية لبنان واستقلال سوريا”.
تحت هذا العنوان العريض للأزمة اللبنانية العميقة تدور عمليّة تأليف الحكومة، التي تعكس مستويَيْ الصراع القائم في لبنان راهناً.
أمّا المستوى الأوّل فهو الصراع بين السلطة التي ما عادت تمثّل مصالح المجتمع، لا بل تضرّ بها ضرراً غير مسبوق، وبين مجتمع يعادي السلطة، لكنّه عاجز عن الدفاع عن نفسه وإسقاطها.
وأمّا المستوى الثاني فهو الصراع بين أفرقاء السلطة أنفسهم، وبالأخصّ بين الرئيس سعد الحريري والنائب جبران باسيل.
لقد دلّت تطوّرات الأيّام الأخيرة، ولا سيّما ترنّح مبادرة الرئيس نبيه برّي، على حقيقة المأزق اللبناني المتمثّل في كون الأفرقاء، الذين يمسكون بأرجحيّة موازين القوى، بغطاء طائفي ومذهبي، عاجزين عن فرض شروطهم لاصطدامهم بالواقع السياسي الطائفي في البلد.
فها هو جبران باسيل، الذي يحاول أخذ اللعبة الطائفية إلى أقصاها من خلال محاولته فرض غالبية الوزراء المسيحيين على الرئيس المكلّف، يرتطم بتمسّك سعد الحريري، المدعوم سنّيّاً، بورقة تكليفه وبصلاحياته الدستورية في عملية التأليف، ويصطدم بعدم قدرته في المقابل على إسقاط هذا التكليف على الرغم من ميل موازين القوى لمصلحته بوصفه الحليف الرئيس لحزب الله.
إذّاك تصطدم الغلبة الطائفية، التي يحاول باسيل إعادة إحيائها، مدعوماً من الحزب، تحت شعار استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية (التي “سلبها” اتفاق الطائف)، برفض الطائفة السنّيّة المسّ بموقعها في النظام السياسي وبصلاحيات رئيس الحكومة.
هذا هو جوهر الصراع السياسي الدائر على مسرح السلطة الآن. لذلك يدفع العهد، الذي بات محاصَراً بالفشل، باتجاه وهم تعديل الدستور لتجاوز عقبة الصلاحيات الدستورية للرئيس المكلّف في عملية تأليف الحكومة، وإلزامه بمهل لا يلزمه بها الدستور، ثمّ تقديم هذا التجاوز بوصفه انتصاراً غير مسبوق للمسيحيين الذين، ويا للمفارقة، ينتظرون أقرب فرصة للهجرة، وبالأخص الشباب منهم، هرباً من الإنجازات الهائلة للعهد وسائر السلطة.
لقد دلّت تطوّرات الأيّام الأخيرة، ولا سيّما ترنّح مبادرة الرئيس نبيه برّي، على حقيقة المأزق اللبناني المتمثّل في كون الأفرقاء، الذين يمسكون بأرجحيّة موازين القوى، بغطاء طائفي ومذهبي، عاجزين عن فرض شروطهم لاصطدامهم بالواقع السياسي الطائفي في البلد
لكنّ تعديل الدستور، الذي يرمي إليه العهد والحزب، ليست دوافعه مسيحية بحت، كما يحاول التيار الوطني الحرّ تصوير الأمر، بل إنّ العامل الرئيس فيه هو مسعى الحزب إلى تغيير قواعد السلطة التنفيذية في لبنان لكي تعكس تبدّل موازين القوى بين عام 1990 زمن تعديل الدستور بموجب اتفاق الطائف واليوم.
بالنسبة إلى الحزب، إنّ شرطه أو دافعه لـ”تعزيز” صلاحيات رئاسة الجمهورية هو إمساكه برئاسة الجمهورية، تماماً كما يحصل الآن.
لذا لا يأخذ اعتذار الرئيس الحريري عن عدم التأليف معناه السياسي الحقيقي إلّا إذا كان في إطار الردّ على المحاولة المستمرّة التي يقودها الحزب والتيار للانقلاب على الدستور.
وهو ما لم يظهر أنّه واقع الأمر بالنسبة إلى الحريري، الذي يقزّم خلافه مع باسيل بإخراجه من سياقه الحقيقي المتمثّل بمحاولة الحزب الإمساك دستورياً، لا سياسياً وحسب، بمقاليد السلطة التنفيذية.
وهو ما يعني عمليّاً إسقاط اتفاق الطائف، الذي يعني دخول لبنان الزمنَ الإيراني دستورياً، لا سياسياً وحسب.
وعوضاً عن ذلك، يقول تيار “المستقبل” إنّ باسيل أفشل العهد، وكأنّ العهد، لولا باسيل، كان سيحقّق إنجازات باهرة.
في الخلاصة، كلّ هذا الهجوم، الذي يشنّه الحزب والتيّار، في مقابل تشتّت خصومهم من أفرقاء السلطة وتراخيهم، يدفع أكثر إلى تأبيد الديكتاتورية اللبنانية المقنّعة، خصوصاً إذا كانت الدينامية الاعتراضية على السلطة، أي مجموعات انتفاضة 17 تشرين، باتت مأزومة، وتكاد تصبح، إذا بقيت مكانها، جزءاً من الأزمة لا عنواناً للحلّ.