هناك طرف لبناني، وهو “حزب الله”، تعتبره الدوائر الديبلوماسية الغربية وحده “المستفيد” من الفوضى والاهتراء والتفكك الحاصلة في مؤسسات الدولة والخدمات العامة.
يقول الأوروبيون ذلك، وبخاصة الفرنسيين، بعيداً عن الإعلام، لكنهم لا يصرّحون به بذريعة أنهم لا يريدون إضافة تعقيدات إلى مساعي تشكيل حكومة جديدة.
وإذ يستنتجون أن “الحزب” نجح في احتواء لبنان وضمّه إلى “المحور الإيراني”، بدليل أن النفوذ الغربي لم يشهد انحساراً لتأثيره كما هو حاصل اليوم، فإنهم يعربون عن استياء شديد لا يجهرون به، فالموسم موسم تفاوضٍ نووي مع إيران، والأوروبيون وسطاء في عملية إحياء اتفاق 2015 ولديهم مصالح يجنونها من رفع عقوبات أميركية تسببت في 2018 بوقف صفقات لهم مع طهران.
يواصل الفرنسيون اتصالاتهم لأن لديهم مبادرة رئيسهم، المدعومة بتفويض أميركي مجَدَّد وآخر أوروبي، ورغم اقتناعهم بأن “حزب الله” هو المعطّل الفعلي والحقيقي لولادة حكومة ويخضعها للحسابات الإقليمية الإيرانية، مستخدماً حليفه “العوني”، إلا أنهم يحجمون عن التشهير بالمعرقل لئلا يزداد تصلباً ويفضلون توجيه إشارات – في السياق – إلى التعطيل الذي يمارسه “الفريق الرئاسي” علناً، ويرفقونها بإشارات تنتقد رئيس الحكومة المكلّف، حرصاً على التوازن الطائفي، بل انهم حين تفشل كل مبادرة للحلّ يعودون للتذكير بأصل المشكلة: التسوية الرئاسية عام 2016، محمّلين الرئيس سعد الحريري مسؤولية المجيء بالعماد ميشال عون رئيساً، وبالتالي مسؤولية المجيء بجبران باسيل “رئيس الظل”.
لم يعد أحد يدافع عن تلك “التسوية”، لكنها بدت في حينها سبيلاً “ميثاقياً” للحفاظ على “الدولة”، ورهاناً على أن أحقاد عون المعارض “اتفاق الطائف” كدستور ووثيقة وفاق وطني ستذوب في سلوك عون الرئيس ومسؤولياته، لكنه حافظ على كل الضغائن واعتمد على “ظلّه” القميء في إبراز شذوذاتها وتحويلها نهجاً للحكم.
لم تعمّر تلك “التسوية” أكثر من عام، وإذا افترضنا أنها استندت إلى تفاهم مكتوب فقد ظهر جلياً أنها لم تأتِ ندّيةً أو موازيةً بالقوّة لوثيقة “تفاهم مار مخايل” بين “حزب إيران” و”التيار العوني” (كتسميتين أكثر دقّةً وأمانةً وشفافيةً، فليس أخلاقياً إقحام اسم “الجلالة” في موبقات ميليشيا، ولا يجوز دسّ “الوطنية” و”التحرّر” حين تكون “الشرعية” هي البضاعة الحقيقية المعروضة للبيع).
لم تتأخر بوادر سقوط “التسوية” بالظهور، لكن الرئيس افتتحها رسمياً حين قال إن مسألة سلاح “حزب إيران” مرتبطة بالحل النهائي في الشرق الأوسط، وحين تبيّن باكراً أنه غير جدّي في البحث عن “استراتيجية دفاعية”. وبموازاة الرئيس راح “ظلّه” يعبث في الوحول الطائفية ويزعزع العلاقات مع مختلف القوى الداخلية، فيما حوّل وزارة الخارجية دمية يحقنها “الحزب” ويفلتها أمام المحافل الدولية والعربية لتتفوّه بما يلقّنها من سموم ونجاسات، تحديداً ضد العرب.
ربما يقال إن كل ذلك لم تعد له أهمية الآن بعدما وقعت الكارثة، وإن اللبنانيين يفكّرون حالياً بهمومهم اليومية وبالصعوبات التي زُرعت في كل مجالات حياتهم، من ودائعهم التي تبخّرت أو سُرقت إلى اكتشافهم أن أموالهم تموّل دعم السلع، وأن قوى التسلط تسرقهم ثانية لتهرب السلع المدعومة إلى سوريا، وأن عملتهم تفقد قيمتها يومياً إزاء الخبز والغذاء والدواء والوقود، وأن وزير الطاقة “العوني” يدعوهم إلى استخدام وسائل نقل لا تحتاج إلى بنزين، إلى كل ما هناك من ترّهات تبرّعت الحكومة التي لم تكلّف بمواجهة الأزمة بل بإدارة الإحباط العام… نعم، كل ما تقدّم لم يعد يهمّ اللبنانيين، لكن عندما يقول الديبلوماسيون في كل العواصم أن دولاراً “إنقاذياً” واحداً لن يدخل لبنان ما لم تكن هناك حكومة يمكن الوثوق بها ويمكن أن تقدّم بعض الإصلاحات الأساسية، يصبح تحديد الجهة المعرقلة مهمّاً كي يعرف اللبنانيون مَن أراد إفقارهم وإذلالهم ومَن يريد تجويعهم ومَن تجب اطاحته من مسار بلدهم ومصيره.
حتى من يقولون إن “حزب إيران” و”التيار العوني” لم يصنعا وحدهما الأزمة التي يعيشها لبنان يجب أن يتذكّروا أن “التسوية” سيئة الذكر لم تمنع أحد طرفيها من تجاوز كل العراقيل للوصول إلى برنامج “سيدر” عام 2018. جاء هذا البرنامج في “ربع الساعة الأخير”، قبل أن تبدأ الأزمة فعلياً، واستخدمت الغالبية الجديدة المنبثقة من الانتخابات في إضاعة الوقت حتى مطلع 2019 لاستيلاد ما كان يفترض أن تكون “حكومة الإصلاحات” ثم في التوافق العسير على الإصلاحات ثم في خلافات ومشاكل جانبية افتعلها “ظل الرئيس” واستغلّها الرئيس لنصرة ظلّه، وفي الأثناء كانت الرساميل تُهرَّب وكل الإنذارات حمراء، إلى أن انفجرت “ثورة تشرين”.
لم يكن “حزب إيران” وشريكه يريدان الإصلاحات ولا أموال “سيدر”، مثلما أنهما لا يريدان اليوم، بعد الكارثة، حكومة إصلاحات وأموال المؤسسات الدولية. أرادا خراب البلد للحفاظ على سلطتهما، ومن الواضح أنهما نجحا حتى الآن، لكن الشعب لن يسامحهما، وإن تأخر يوم الحساب.