وحده لبنان بين الدول العربية، وربما بين دول الكرة الأرضية عن آخرها، لا يهمه وجود جيش قوي تكون له الكلمة الفصل في أمن البلاد والعباد والكيان والحدود.
ووحده ربما لا يخاف إذا انهار جيشه، ولا يتحسر إذا جاع جنوده، ولا يخجل إذا تسكع هنا أو هناك سعيا وراء ذخائر أو وقود أو عتاد أو دور، وحتى وراء متطوعين في بعض المرات.
ووحده لا يتورع عن كسر شوكته في مواجهة خصم محلي أو عدو خارجي.
في ستينيات القرن الماضي كان المسلمون ينظرون إلى الجيش على أنه جيش المسيحيين، فلا ناصروه حين اصطدم بالفلسطينيين ولا بايعوه في مواجهة الاحتلال السوري، ولم يترددوا في طرده من غرب بيروت في السادس من شباط العام ١٩٨٣، ولا راهنوا عليه في أي قتال مع الإسرائيليين، فركبوا موجة البندقية الفلسطينية والسورية باعتبارها بندقية المسلمين، وأنتجوا على أطرافها بنادق مسلمة ويسارية، وفي سبعينيات القرن الماضي، أزاح المسيحيون الخائبون “الحارس” المتقاعس الذي انقسم على نفسه وتوزع بين منشق يقاتل مع هذا الفريق وآخر يقاتل مع ذاك الفريق، وانضموا إلى الأحزاب المسيحية التي تحولت إلى بندقية المسيحيين.
المسلمون تلقوا السلاح من السوريين والدول العربية والشرقية والمسيحيون تلقوه من السوق السوداء وتجار السلاح والإسرائيليين، كلٌ تحت شعار يتعلق إما بالامتيازات في مكان، وإما بالوجوديات في آخر، في حين التزم الجيش ثكناته متمسكاً بسلاح شبه بائد ومتفرجاً بكثير من الغضب والحقد والغصة، على ميليشيا مدججة بالسلاح، ومفعمة بالعزة ومهيمنة على دوره ورسالته وعقيدته وحتى بزته، وعلى جنود سوريين يمسكون بالأمن وينظرون إلى نظرائهم اللبنانيين نظرة فوقية فيها الكثير من الاستخفاف.
وجاءت الفرصة في العام ١٩٨٨، عندما “تنازل” الرئيس أمين الجميل لحكومة عسكرية انتقالية بقيادة قائد الجيش ميشال عون، الآتي إلى السلطة سعياً وراء أمرين: القضاء على ميليشيا “القوات اللبنانية” إرضاء لسوريا التي كانت تتخوف من تعاظم نفوذ الرئيس صدام حسين في المنطقة الشرقية من بيروت، والوصول إلى رئاسة الجمهورية بأي ثمن.
وفي الرابع عشر من شباط العام ١٩٨٩، دفع بالجيش إلى مواجهة مع “القوات اللبنانية” وكاد يتغلب عليها لولا تدخلات دينية وشعبية وسياسية في آخر لحظة، وعندما جاءه الرد السوري بارداً، انقض بعد شهر تماما على المنطقة الغربية في الرابع عشر من آذار تحت شعار حرب التحرير من الاحتلال السوري.
لم يكن عون يتوقع أن يتورط في حرب لا أفق لها، ولم يكن يتوقع أن تسمح أميركا للسوريين بالرد وخرق هدنة عملت واشنطن طويلاً على فرضها بين شطري العاصمة.
وغرق الجيش في حرب استنزاف أفقدته الكثير من مخزوناته الصاروخية والمدفعية، وكلفته خسائر كبيرة في صفوف النخبة من ضباطه وجنوده، من دون أن يتمكن من تحرير شبر واحد من الأراضي التي يسيطر عليها الجيش السوري.
وما زاد الطين بلة، سقوط الكويت في قبضة الجيش العراقي، وانطلاق الجيش الأميركي وحلفائه لتحرير الإمارة مدعومين بغطاء عربي شمل النظام السوري في مقابل السيطرة على لبنان.
عون لم ينتبه إلى هذا التحول الاستراتيجي الخطير، وواصل إنهاك جيشه إلى الحد الذي وجد نفسه مضطراً إلى إيجاد تسوية سياسية يمكن أن تحمله إلى الرئاسة الأولى رئيساً شرعياً وطبيعياً هذه المرة لا حاكماً موقتاً.
في الطائف، كان القرار الأميركي حاسماً: نقل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، تخلي أطراف القتال عن السلاح، تولي الجيش اللبناني الأمن في كل الأراضي اللبنانية، انسحاب القوات السورية في شكل تدريجي، انتخاب النائب رينيه معوض رئيساً للجمهورية.
اختيار معوض، كان بمثابة حكم إعدام بالنسبة إلى الجنرال العاصي، فرفض التنحي، ما سمح للمتضررين من الاتفاق بتصفية الرئيس الآتي بإجماع عربي دولي وانتخاب رئيس يوالي دمشق في شكل مطلق هو الرئيس الياس الهراوي، الأمر الذي أعطى النظام السوري وصاية كاملة على لبنان وبغطاء عربي – دولي غير معلن.
عون المتمسك بحلم الرئاسة لم يكن أقل تعنتاً حيال الهراوي وواصل اللعب على حافة الهاوية، والاعتماد على موجة شعبية رأت فيه المنقذ من احتلال سوري مزمن، ومن دستور جديد يحرم المسيحيين من امتيازات واسعة ويحول رئيسهم إلى “باش كاتب” أو “ساعي بريد” أو “شيخ صلح”.
لم يكن أمام الجنرال العاصي إلا ما تبقى من جيشه بعد حرب طويلة ومكلفة، لاستعادة المبادرة كاشفاً أمام مستشاريه أنه سيتعامل مع اتفاق الطائف كما تعامل سمير جعجع مع الاتفاق الثلاثي، أي القضاء على عجلة من العجلات الثلاث التي قام عليها ذاك الاتفاق أي إيلي حبيقة…
وهمس عون أمام ضباطه أن إسقاط اتفاق الطائف يقضي بإسقاط إحدى عجلاته الثلاث أي “القوات اللبنانية” وبكركي.
انطلقت حرب الإلغاء من دون أي دراسة دقيقة لواقع الأرض وموازين القوى، ففوجئ الجيش بجيش مقابل أكثر تجهيزاً وأشد التزاماً وعصبية، فغرق في حرب استنزاف جديدة استمرت نحو ٩ أشهر لتصبح في سجلات المؤسسة العسكرية أطول حرب يخوضها في تاريخه، ولتقضي على ما تبقى من نخبته وترسانته ومعنوياته.
ولم يدرك الجنرال حجم خسائره وهول ما جرى في البوتقة المسيحية، وواصل الرهان على عامل الوقت مصراً على عدم وجود أي قرار دولي أو إقليمي لإطاحته عبر القوة العسكرية.
في الثالث عشر من تشرين الأول خاض جيشه حرباً رابعة في عامين ليسقط أمام الجيش السوري هذه المرة، في حين انتقل هو إلى السفارة الفرنسية معلنا التنازل عن أمور القيادة العسكرية لقائد الجيش وقتذاك إميل لحود.
ولا نهدف من هذا العرض إلى سرد رواية بسيطة من روايات الحرب، بل مسار دراماتيكي قضى على أي فرصة ممكنة تسمح للجيش اللبناني بأن يكون القوة العسكرية، التي تتولى وحدها أمور الأمن والدفاع في بلد كل حزب فيه ميليشيا وكل مواطن مقاتل.
رحل عون إلى فرنسا واستفردت سوريا بأمور الاستخبارات وكل المفاصل الأمنية في البلاد، في وقت كان الجيش يعيد تركيب نفسه جندياً تلو جندي وضابطاً تلو ضابط وسلاحاً يحمله من ترسانات الميليشيات التي سلمت سلاحها بموجب اتفاق الطائف، باستثناء “حزب الله” الذي وجدت له سوريا مهمة فجائية تتمثل في تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي حول الجيش إلى مجرد شرطي لا دور قيادياً له ولا هيبة ولا دور ولا حتى جبهة.
وباستثناء حرب نهر البارد وفجر الجرود، لم يكن للجيش أي مكان أمني متقدم في حسابات المسؤولين اللبنانيين الذين بايعوا في شكل مطلق ميليشيا “حزب الله” وأمعنوا في التقليل من شأن الجيش على المستويين القتالي والتسلحي، وأوكلوا له مهام قمع الثوار وفتح الطرقات وحماية النظام والقصور الرئاسية.
وتشاء الصدف أن يكون الجنرال ميشال عون في مقدم هؤلاء المسؤولين لا بل في طليعة من وضع بيضه في سلة “حزب الله” متناسياً الشعار الذي رفعه خلال أربع حروب دموية ومدمرة، ألا وهو ” الجيش هو الحل”.
ولا بد هنا من السؤال: وماذا عن تسليح الجيش؟
الدولة اللبنانية لا ترصد موازنات ضخمة لتسليحه، ولا تبذل مساعي جدية لتزويده بالسلاح النوعي الذي يحتاج إليه لفرض تفوقه على كل الآخرين، ولا يزعجها أن تأتي المؤسسة العسكرية الشرعية في المرتبة الثانية بعد مسلحي “المقاومة الإسلامية”.
وتشاء الصدف أيضاً أن يكون ميشال عون المدين بكل مناصبه لهؤلاء الضباط والجنود، واحداً من الطاعنين في قدرات الجيش وكفاءاته ومهاراته القتالية وأدواره البديهية والطبيعية.
وأكثر من ذلك، لم يكن “حزب الله” أكثر حرصاً على المؤسسة العسكرية، فهو يدرك أن تعزيز قوته على مستوى العتاد والعديد سيأتي على حسابه، وينتزع منه أي ذريعة عسكرية أو سياسية أو استراتيجية للإبقاء على جناحه العسكري، الأمر الذي يفسر تلك الحملة الكلامية العنيفة والمتواصلة التي شنها على المملكة العربية السعودية، ما دفعها إلى إلغاء هبة من ٣ مليارات دولار لتسليح الجيش، كردة فعل من الرياض التي راعها أن تقف الدولة اللبنانية مكتوفة أمام ما تتعرض له من حلفاء إيران في لبنان.
وأكثر من ذلك أيضاً، وفي لقاء مع السفيرة الأميركية في بيروت مورا كونيللي، تناول الكلام مسألة تسليح الجيش باعتباره الجهة الأمنية الوحيدة التي يجب أن تتولى أمور الأمن في لبنان…
سألت سعادتها: “أي سلاح تتحدثين عنه… هل هو السلاح الذي تخافون أن يزعج إسرائيل أم السلاح الذي تخافون أن يقع يوما ما في قبضة حزب الله؟”.
الجواب كان بسمة صفراء صامتة.
وهنا نسأل: هل يريد أحد أن يبني جيشاً قوياً ومقتدراً في لبنان؟
الجواب لا يحتاج إلى الكثير من المحللين والمراقبين والشهود.
ها هو قائد الجيش جوزاف عون يجول حول العالم لا بحثا عن سلاح نوعي بل عن لقمة خبز لجيشه الجائع.
والمفارقة هنا أن الرجل نفسه الذي تفرج على جيشه وهو يذبح عندما كان قائداً له يتفرج عليه وهو يموت جوعاً بعدما صار رئيساً له.