لا بأس بكلام آخر عن إتفاق الطائف الذي تعرض للانتهاك منذ الايام الاولى لوضعه في الخدمة الدستورية، بل حتى قبل ذلك وعلى يد أحد صناعه حافظ الأسد.
والكلام الآخر المقصود ليس جديداً بطبيعة الحال خصوصاً لجهة القول إن الطائف لم يطبق كما يجب، ولم يوضع موضع التنفيذ في أبرز بنوده، أي في قضية إعادة الانتشار السوري أو في قضية الانتخابات على أساس غير طائفي يليها إنشاء مجلس الشيوخ… وغير ذلك الكثير.
وليس هذا السرد السريع والمختصر سوى إشارات لا بد منها للدلالة على أن الوصي السوري كان متحكماً بكل صغيرة وكبيرة في لبنان، ولم يكن أي شيء يتقرر أو ينفذ خارج ارادته، التي تحددها مصلحته وتخدم تكتيكاته واستراتيجيته اللبنانية، القائمة أولاً وأساساً على استتباع لبنان وضبَه تحت الإبط كبدل عن ضائع اسمه الجولان.
إتفاق الطائف كان وبقي ورقة يقرأ منها الوصي السطر الذي يناسبه ويشطب الباقي، وهذا لم يكن سراً ولا مكتوماً بل علنياً مكشوفاً مفضوحاً ووقحاً إلى آخر حدود الوقاحة… أي إلى مستويات النزق المعروف عند اتباع آل الأسد في نواحينا كما في سوريا نفسها… وكثيرون يعرفون أن الوصي السوري كان لا يطيق حتى الإشارة الى الاتفاق الموؤود، لا من تابع يشتغل عندهم وفي خدمتهم ولا من أي سياسي لبناني أو غير لبناني، بل كان نظام الأسد يضع ذلك النوع من الإشارات في خانة الكيد له، والتآمر عليه، ودس الدسائس ضده من عملاء يريدون غلحاق الأذى به وبسعيه إلى التوازن الاستراتيجي المدعى مع إسرائيل! أو محاولة النيل من صمود القطر السوري في وجه مستهدفي رفعته وعزته وجبروته وقوته ومثاله الذي يجب أن يحتذى.
وفي ترجمة ذلك عندنا استخدمت الكثير من الأدوات غير العادية واعتمدت آليات ووسائل يعتمدها عادةً ذلك النوع من الأنظمة المشابهة والمساوية لنظام الأسد… أي تكثير الأتباع والخدم والعملاء التامّين الذين لا يردون أي طلب بل لا يجرؤون على ذلك ولا يرتدعون أمام أي خزي أو امر أو إشارة.
أيا تكن “القضية” المعروضة وأياً يكن الموضوع المطروق.
وعليه يصح القول (ولا يصح غيره) إن المسؤولية الأولى والأخيرة والثابتة عن عدم تفعيل اتفاق الطائف أو وضعه في موضع التطبيق، هو الوصي السوري الذي أوكلت إليه مهمة لا يريدها إلا وفق حساباته وقياساته.
وقد فعل ذلك بشطارة معهودة لديه ومعروفة عند المحتكين به بحيث إنه باع القوى الإقليمية والدولية المعنية بالاتفاق وأبعاده، ما هو الأساس واستبقى لنفسه التفاصيل ثم خلق معادلة تقول إن هذه التفاصيل هي الأساس: أوقف الحرب وحل الميليشيات ونظم “المقاومة ” للاحتلال في الجنوب اللبناني، وسار باتجاه ترجمة دستورية شبه حرفية للبنود الإصلاحية، إلا أنه في مقابل ذلك أبقى يده محكمة القبض على العنق اللبناني بحجة أن التراخي في ذلك سيعيد إنتاج الحرب، ثم استطرد في منع تنفيذ خطوة إعادة الانتشار إلى البقاع.
ثم توغل في جعل نفسه مرجعاً لا بديل منه ولا بد منه لضبط الترجمات المتناقضة للدستور، مع أنه هو الذي كسر ذلك الدستور بالقوة القاهرة وأخضعه لمزاجه السياسي وحساباته الحقيقية القاضية بقوننة إلحاق لبنان به مرة واحدة وأخيرة، وقرر اعتماد نموذج الصين مع هونغ كونغ أي القيادة السياسية الواحدة لنظامين مختلفين في الاقتصاد والنص الدستوري.
اتباعه في نواحينا، وخصوصاً من كان منهم في موقع أمني أو عسكري مثل جميل السيد أو إميل لحود وأمثالهما، تصرفوا لبنانياً وفق النسق السوري، أي باعتبار ان الاولوية في السلطة والقرار والتنفيذ هي للأمن أولاً وثانيا وعاشراً، وأن الدستور والقوانين المرعية الإجراء والقضاء والقضاة وكل شكل مدني سلطوي آخر، آكان مجلساً نيابياً أو وزارياً أو سيادياً (بالعنوان طبعاً) كل ذلك ليس سوى صورة برّانية لزوم الديكور فقط، وأي نص دستوري يقول بغير ذلك يمكن لصاحب الشكوى إن استطاع الشكوى أصلاً، أن يبل شكواه ببعض الماء ثم يشربه ويسكت أو يتم إسكاته بطريقة ما.
والذي يعرفه الجميع على كل حال، هو أن أساطين النظام الامني المشترك الذي تكفل بتسيير شؤون الوصاية بكل تفاصيلها وارتكاباتها، كانوا يتمايزون بالشكل من دون المضمون، وكل واحد منهم مربوط بمرجعية سورية محددة لكن لم يسمح لأي منهم أن يكبّر رأسه زيادة عن المعدل المسموح به، أو أن يحاول الاستطراد خارج النص الملزم له ولغيره.
وكان السباق بين هؤلاء يقوم على قاعدة من عنده القدرة أكثر من غيره على تقديم فروض الاستتباع والاستلحاق والتبعية العمياء، بغض النظر عما إذا كان ذلك يعني (دائمًا وأبدًا) ضرباً للأصول والقوانين والدستور وشروط الوظيفة الأمنية أو العسكرية أو الالتزام بشرف القسم الذي يؤديه كل ضابط لبناني.
اتفاق الطائف الذي يتباكى عليه جميل السيد ويتهم غيره بما هو فيه أولاً واساساً واصلاً وفصلاً، وبما هو معروف عنه لجهة تجلياته المأثورة في استنباط أفضل الطرق للفتك به… ذلك الاتفاق لم يكن ولا يزال إلا أبرز ضحايا استتباع لبنان لدولة آل الأسد وبعدها لورثة نفوذها
ولا يزال وسيبقى، على ما يبدو، عنواناً لمدرسة في التهتك والفجور وتحطيم القيم والدساتير والقوانين والأعراف والمؤسسات على أيدي من يفترض بهم أن يكونوا رعاة وحراساً، فإذ بهم أول اللصوص وأكبرهم.