يتسبب بالمشكلة ثم يطلب من الآخرين حلّها. ويتسبب بالإقفال ثم يطلب من الآخرين تأمين المفتاح… هكذا يمشي حزب إيران في لبنان ومع البلد واللبنانيين، ووفق نهج لم يتغير ولن يتغير حتى لو راحت أحوال الجميع إلى الاسوأ، وحتى لو اكتمل انقلاب عاليها سافلها!
قبل الآن بقليل سرت خبرية “لو كنت أعلم” وأُريد منها تخفيف وطأة الكارثة التي أنتجتها حرب العام ٢٠٠٦ قبل أن تعود القياسات وتنقلب تماماً: صارت الكارثة انتصاراً لا نظير له. وصارت سردية الحرب في ذاتها تقوم على تحميل الجماعة السيادية الاستقلالية المسؤولية عنها! باعتبار أن الإسرائيليين والأميركيين كانوا يشتغلون آنذاك عند ١٤ آذار، وينفذون طلباتها تنفيذ الخادم التابع وليس الموظف فقط. أما كيف تركب معادلة “لو كنت أعلم” مع اتهام الأغيار بالتآمر لإشعال الحرب، فهذا جزء عادي من سلوكيات صاحب الشأن في حزب إيران وطريقة تفكيره، ولا جديد فيه.
اليوم، وفق ذلك السياق والنطاق، تعصف بلبنان واللبنانيين أزمة وجودية عزّ نظيرها فعلاً وقولاً وتاريخاً حديثاً وقديماً (في دولة الاستقلال) وكل ظواهر وبواطن هذا البلاء تدور وتحور عند مسببات نافرات واضحات وجليّات، تقول إن حزب إيران أخذ البلد رهينة حساباته وارتباطاته منذ العام ٢٠٠٥ ولا يزال، وهذا كان كافياً للوصول إلى نتيجتين حتميتين: الأولى منع تنفيذ حلم قيام دولة معقولة غداة الانسحاب السوري، بما يعنيه ذلك من إكمال، أو محاولة إكمال ما كان بدأه الرئيس الراحل رفيق الحريري، لجهة تصفية آثار الحرب المديدة وإعادة لبنان إلى أدواره المعروفة، واستكمال معركة التنمية تحت الأرض وفوقها والبناء على حقيقة ساطعة وعزيزة هي خلو البلد للمرة الأولى منذ عقود، من أي “وجود” عسكري- امني غير وطني بعد انسحاب السوريين والإسرائيليين وقبلهم تغييب وتحجيم السلاح الفلسطيني! والثانية هي أن إنهاء تلك الفواصل بين الشرعية من جهة والشارع من جهة ثانية، والذي سمح على مدى سنوات الحرب منذ اندلاعها في العام ١٩٧٥ بإبقاء الروابط متينة بين هذه الدولة والكيان برمّته وبين العالم الخارجي، العربي عموماً والخليجي خصوصاً، والدولي الأوروبي أو الغربي في الإجمال… إنتفاء تلك المساحة الفاصلة عنى أمراً واحداً هو وضع لبنان بجملته في مصاف الدول المارقة، أو بالقرب منها، طالما أن محور حزب إيران صار الآمر الناهي في كل كبيرة وصغيرة.
إدخال لبنان غصباً عن غالبية أهله في عضوية نادي الانتصارات الإلهيات، ذاك الذي تقوده إيران بوضوح وتترك لأدواتها وأتباعها الاهتمام بالتفاصيل والجزئيات غير المؤثرة في السياق الالحاقي العام، عنى شيئاً واحداً أكيداً هو أن أحوال البلد المستتَبع لن تكون أحسن من أحوال البلد المستتبِع، وأن العضوية في ذلك النادي لن تعني سوى التماثل مع باقي الأعضاء، أي أن سوريا الأسد والعراق الحشد وغزة حماس واليمن الحوثي ولبنان الممانع شيء واحد، في الصورة والصوت والشكل والمضمون، والمال والاقتصاد، والعلاقات المأزومة مع العالم بكل نواحيه، ومع الأشقاء والأصدقاء قبل غيرهم، ومن كانت لديه أوهام متأتية من زمن مضى، صار عليه الانتباه إلى الزمن الراهن بكل معالمه ومعانيه، وبكل وجوه الجيل الجديد الحاكم، بعد أن مضى الجيل السابق مع الزمن الذي مضى.
وعضوية لبنان المأسور في نادي إيران عنى ويعني وسيبقى يعني، أن أزماته مستدامة وطويلة المدى وليست من النوع الموضعي والعابر. وقد يكون التشبيه الآتي مؤلماً وقارصاً لكنه يدل إلى الواقع من دون رتوش: بقيت دول أوروبا الشرقية التي استتبعها ستالين بعد الحرب العالمية الثانية أسيرة دولة المركز في موسكو، ولم تنجح أي محاولة للتفلت من ذلك الأسر سوى في بولندا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي وبأكلاف كبيرة وبوجود “ادارتين” استثنائيتين قدمتا دعماً مفتوحاً وغير محدود لحركة التضامن الاستقلالية وزعيمها ليخ فاونسا: الأولى في واشنطن مع رونالد ريغان والثانية في الفاتيكان مع البابا يوحنا بولس الثاني. أما باقي دول نادي المعسكر الاشتراكي فكان عليها انتظار الانهيار في موسكو كي تتحرر وتخرج إلى العالم والحرية والحياة، وكان عليها انتظار انكسار المثال في أصله قبل أن تتمكن من صنع مثالها الوطني الخاص واعادة إنتاج حيثياتها السيادية الخالصة.
ليست إيران بقوة وجبروت وقدرات الاتحاد السوفياتي السابق، وليس لبنان في وضعية دول المعسكر الاشتراكي، الذي كان يقوده صاحب القرار في الكرملين، لكن الإطار التماثلي العام موجود وقائم، والتمايز في التفاصيل لا يلغي العنوان العريض: حزب محلي حاكم بالتورية، ويقرر مصير البلد من خارج سياقاته الدستورية والشرعية، مرتبط دينياً بمرجعية موجودة في إيران وتلعب دور الموجّه والمرشد، وتوجيهاتها وإرشاداتها ملزمة فقهياً وسياسياً، وواجبة التنفيذ شاء من شاء وأبى من أبى.
لكن الغرابة في أوجه الاختلاف وليس التماثل، بمعنى أن دول المعسكر الاشتراكي السابق كانت محكومة بأحزاب مؤدلجة وفق النظرية الحاكمة في موسكو، وكانت تحكم وتتحمل مسؤولية أدائها وخططها وارتباطاتها، في حين أن حزب إيران عندنا لا يريد أن يتحمل وزر سياساته وارشاداته وارتباطاته، بل يترك لنفسه تبرير الفشل من خلال تحميل غيره المسؤولية الشاملة عن هذا الفشل، ومحاولة لعب دور البريء تارة والوسيط طورا، والذي لا يملك الاّ الوعظ والتمنيات والإرشادات والقراءات العامة، بل يفعل كل شيء لتغطية حقيقة انه لا ينتعش سوى في وسط مأزوم، ولا يتقدم سوى في دولة مكسورة، ولا يستمر سوى في ظل استمرار الازمات العامة، وأنه في الأصل والأساس، ما كان له أن يرسّخ حضوره ودوره في ظل دولة قائمة وقادرة، أو في ظل مؤسسات رسمية وشرعية عاملة وفاعلة وموجودة، وما كان له أن يتمدد من حيّزه الخاص إلى الحيّز الوطني العام لو كان ذلك الحيّز طبيعياً وعادياً، ولذلك لم تجد الصادرات الإيرانية أسواقاً مفتوحة أمامها في الدول العربية والإسلامية المقتدرة والمتمكنة والقوية، بل كان التسلل متاحاً إلى الدول المنكوبة والمضروبة لأي سبب كان.
بهذا المعنى، إذا أمكن، يمكن الافتراض من حيث المبدأ أن حزب إيران يتحمل مسؤولية تدهور أحوال لبنان عموماً أقلّه منذ العام ٢٠٠٥. ويتحمّل راهناً مسؤولية الاستعصاء الحكومي بانتظار معرفة نتائج مفاوضات فيينا بين إيران والولايات المتحدة. ولا يبدو انه يهتم فعلاً بعذابات اللبنانيين ولا بكوارثهم المتناسلة بقدر اهتمامه برمي مسؤولية الكارثة على غيره.