لم يعد الرئيس سعد الحريري في وضع يسمح له باتخاذ قرارات غير شعبية على المستوى السني، وغير متكافئة على المستوى الوطني وغير صائبة على المستوى الإقليمي- الدولي، في وقت لم يعد الرجل وريث رفيق الحريري وحسب بل جسر العبور من مرحلة الاحتلال السوري – الإيراني إلى مرحلة الانخراط مجددا في الخارطة العالمية سواء شاء ذلك أو أبى.
هذا الواقع لا تفرضه أمزجة أو حسابات خاصة أو تكتيكات معينة، بل حاجة وطنية قد تكون الأكثر إلحاحاً في تاريخ لبنان الحديث.ولا تفرضه ضغوط من هنا وتمنيات من هناك، بل تكرسه نقطة فاصلة لا تحتمل أي تهاون أو تشاطر أو تعاطف أو مسايرات.
وهذا الواقع أيضاً، يجعل أي تنازل جدبد يقدمه سعد الحريري نوعاً من “التهور” الذي لا يمكن لجمه، ونوعاً من الانكسار الذي لا يمكن محوه، ونوعاً من الاعتباطية التي لا يمكن تبريرها.
وليس سراً أن الحريري لم يعد قادراً على تحمل المزيد من التنازلات والخيبات، وأن الطائفة السنية لم تعد مستعدة لابتلاع المزيد من التراجعات والانكفاءات، وأن لبنان لم يعد في وضع يسمح بمزيد من التحولات التي تعطي “حزب الله” الفرصة لجره نحو احتلال اكثر ترسخاً، وتعطي الرئيس ميشال عون الفرصة لجره إلى انحلال أشد وقعاً. لقد استمد الحريري قوته الداخلية من تعاطف وطني شبه شامل لم يشهده أي زعيم سني منذ الرئيس رياض الصلح، ودعم عربي – دولي يشبه إلى حد بعيد الدعم الذي كان يرافق والده الراحل، وذلك لثلاثة أسباب أساسية:
– إن العالم بشقيه العربي والدولي كان يبحث عن شخصية سنية قادرة على إظهار الوجه الآخر للإسلام السياسي، أي الإسلام المعتدل القادر على لجم أو تطويق أو احتواء الانفلاش الأصولي الذي مثلته داعش والنصرة والذي تحول سبباً لتبرير المد العسكري الذي نفذه “حزب الله” في اتجاه سوريا والعراق، وسبباً آخر لتعويم النظام الحاكم في دمشق.
– إن السنة في لبنان وبعض الجوار كانوا يبحثون عن شخصية سنية قوية تملأ الفراغ الذي خلفه سقوط النظام السني في العراق وانكفاء البندقية الفلسطينية في لبنان مع حشر ياسر عرفات في رام الله وتصاعد النفوذ الإيراني في أوساط حماس والجهاد الإسلامي.
– إن حزب الله والنظام الحاكم في دمشق تسلحا بالفورة السنية الأصولية، الأول للاحتفاظ بحكم يراه أفضل الحلال والثاني للاحتفاظ بسلاح يسوقه سلاحاً إسلامياً “رادعاً لا غازياً”.
من هنا، ترى أوساط عربية، مع انحسار الموجة الأصولية في سوريا والعراق، أن على الحريري التعامل مع الملف اللبناني بصفته عراب الاعتدال السني أولاً وشريك القرارات المصيرية ثانياً، ورافعة السلم الأهلي ثالثاً، وصمام التنوع الديني والثقافي في لبنان رابعاً، وحارس المناصفة المسيحية – الإسلامية خامساً وهي المعادلة التي يحاول محور الممانعة استبدالها بالمثالثة ولو في شكل غير علني على الأقل.
وبعيدا من التنازلات- التضحيات التي قدمها الحريري سواء عن حسن نية أو عن خطأ في التقدير، ومنها ما لم يكن في الحسبان، أي زيارة سوريا ومقابلة الرئيس بشار الأسد، والسير بالقانون الانتخابي الجديد على رغم علمه بانعكاساته السلبية على حجم كتلته النيابية، وتقديم استقالته في عز ثورة “السابع عشر من تشرين”، لا يبدو الرجل هذه المرة في أي موقع هش قد يجره إلى مزيد من التنازلات المماثلة أو على الأقل إلى مزيد من التنازلات المجانية أو غير المربحة على الأقل.
لقد بلغ الحريري مرحلة وطنية وسياسية حساسة ودقيقة يتحدد على أساسها مصير لبنان الكيان لا بل مصير التركيبة اللبنانية على كل المستوبات، ومرحلة شخصية يمسك فيها بآخر أوراقه تأثيراً وأكثر أوراق السنة قوة ووقعاً، وهي أوراق قد لا يمكن استعادتها بسهولة أو بسرعة في حال احتراقها جزئياً أو كلياً.
ويكاد لا يختلف اثنان على أن ما يواجهه الحريري في كباشه السياسي مع الرئيس ميشال عون وفريقه، ليس من نوع الكباشات التي اعتادها اللبنانيون في حياتهم السياسية والدستورية، بل من نوع الكباشات التي لا تنتهي إلا بانتصار فريق على فريق، أو رئاسة على رئاسة أو طائفة على طائفة.
ويجمع الكثير من المراقبين على أن الرئيس عون، الذي لم ينس استقالة الحريري خلال “ثورة تشرين”، ليس على استعداد لتسهيل وصوله إلى السراي رئيساً لحكومة لا يملك فيها أوراق القوة التي يحتاج اليها لتأمين الهبوط السهل للنائب جبران باسيل على سطح القصر الرئاسي، والتي يحتاج إليها “حزب الله” للإمساك بكل مفاصل الحكم سعياً إلى ست سنوات إضافية من السيطرة والهيمنة والتمدد والتوسع والتهرب من المحاسبات والمساءلات ومفاعيل العقوبات.
وأكثر من ذلك، يعرف المراقبون أن الرئيس عون يريد من خلال “تطفيش” الحريري الوصول إلى الأمور الجوهرية الآتية :
– ضرب المبادرة الفرنسية منعاً لأي تدويل مباشر أو غير مباشر يتعارض مع النفوذ الإيراني في لبنان، ويعطي بكركي ما أخذه البطريرك صفير بعد “نداء” الاستقلال عن الاحتلال السوري في العشرين من أيلول العام 2000،
– الضغط على الأميركيين لحملهم على رفع العقوبات عن جبران باسيل في مقابل التوقيع على أي حكومة يشكلها الحريري، أو حتى على أي حدود بحرية تفرضها تل أبيب وتباركها واشنطن.
– السعي إلى تسجيل انتصار مسيحي عشية الانتخابات النيابية التي يبدو فيها التيار الوطني الحر في موقع لا يسمح له بالحصول على كتلة نيابية وازنة تفرضه رقماً صعباً في البرلمان الجديد.
-السعي إلى “غلبة” تظهر أن عون كان على حق عندما أبرم تفاهم مار مخايل مع “حزب الله”، وأن الرجل تمكن بذلك من توظيف البندقية الشيعية في حماية المسيحيين من “الغزو” الأصولي السني الآتي من الداخل والخارج معاً.
-السعي لإقناع المسيحيين بأنه الأكثر حرصاً على حقوق المسيحيين التي يحاول السنة “ابتلاعها” أو مصادرتها أو احتكارها أو التحكم بها من دون عوائق أو ضوابط، وتوجيه رسائل إلى الأحزاب المسيحية الأخرى واتهامها بالتقاعس حيناً والتآمر حيناً آخر، وهي رسائل يتكفل باسيل بتوجيهها بين الحين والآخر.
– السعي لشراء الوقت بطلب من “حزب الله” لإبقاء الموضوع الحكومي عالقاً أو قابلاً للمساومة في أي تسوية إقليمية – دولية ممكنة.
– السعي إلى تشكيل حكومة يملك فيها الثنائي الأصفر- البرتقالي الغالبية التي تسمح بإدارة شؤون البلاد في حال الوقوع في فراغ رئاسي بعد عام ونصف من الآن.
السعي لتطويق الرئيس نبيه بري ومنعه من التأثير في أي تشكيلة حكومية أو في أي شأن وطني مصيري، ما دام يغرد خارج السرب الذي يمكن أن يسهم في وصول جبران باسيل إلى سدة الرئاسة.
وأخيراً، وهذا هو الأهم، السعي لكسر هيبة الحريري نهائياً ومن خلاله أي نفوذ إقليمي أو دولي يتعدى النفوذ الإيراني، وانتزاع الورقة السنية منه، وتوزيعها على فاعليات سنية أخرى تدور في فلك الممانعين أو تتماهى معهم بطريقة أو بأخرى.
وأكثر من ذلك الامتناع عن أي إصلاحات من أي نوع يمكن أن تخفف من أعباء اللبنانيين، وإلقاء اللوم على “الحريري الجديد” الذي يكمل ما بدأه “الحريري القديم” من “فساد وديون وفوضى وانهيارات وصفقات وسمسرات” وقعت كلها على “رأس عون وعهده ووعوده وطموحاته.”
وليس من قبيل المصادفة أن يخرج فيصل كرامي إلى الواجهة فجأة، وأن يبدأ فريق الرئاسة برمي أسماء سنية متعددة في محاولة لإفهام الرأي العام أن الحريري ليس السنة وأن السنة ليسوا الحريري.
ويختم هؤلاء المراقبون، أن العقدة ليست في تسمية وزيرين مسيحيين هنا أو هناك، بل في رسم واحد من خطين مصيريين: إما التسليم بمشيئة الأئمة في طهران، وإما التسليم بسلالة عون على الطريقة الملكية في الغرب ونظام الحكم الواحد في الشرق.
من هنا، لا يبدو سعد الحريري وهو في أصعب تحدياته السياسية والشعبية، حراً في خياراته وقراراته، ولا في موقع يسمح بأي تراجع من أي نوع حتى لو اعتذر في مقابل تسمية من يريد من الشخصيات السنية، إذ إن المطلوب في بعبدا والضاحية قطع رأسه بالسياسة كما قطع رأس والده بالسيف.
فهل يقدم على الاعتذار اعتقاداً منه أنه ينقذ لبنان، لا عون ولا باسيل ولا “حزب الله”؟
الواقع أن انسحاب الحريري من معركة التشكيل لن يكون إلا فتح الطريق أمام حسان دياب آخر لا يجيد إلا التوقيع مجاناً والانحناء طاعةً والتسليم بوطن يعمل حكامه على تفريغه وتفليسه باعتباره وطناً لا يستحق الاستقلال ولا تليق به الحياة.