ليست هينة ولا بسيطة سلسلة الاتهامات التي وجهها زعيم “حزب الله” إلى الأميركيين والسعوديين في شأن لبنان، والتي وصلت حسب قوله إلى محاولة إعادة إنتاج الحرب الأهلية، ثم إلى ما دون ذلك بكثير، أي إلى تنظيم كل ذلك التهتك والانحطاط الضاربين بضراوة في طول الجمهورية وعرضها، منذ تشرين الأول ٢٠١٩.
ليست هينة تلك الاتهامات ولا بسيطة، لكنها بالتأكيد ليست جديدة، بل هي في واقع الحال علامة من علامات الأداء السياسي الدائم لجماعة الممانعة في الإجمال ولحزب إيران في لبنان خصوصاً وتحديداً… علامة أداء باتجاه الغير بقدر ما هي علامة أزمة ذاتية تعسّ في دواخل الديار الممانعة جغرافياً وسياسياً ومالياً .
ولا يحتاج الأمر إلى قدرات خاصة لملاحظته، بل لمحة معاينة سريعة تبعاً لتكراره: تصاعد وتيرة الضخ التعبوي الاتهامي باتجاه “الأعداء” في أي قضية، كبيرة أو صغيرة، يعني أن الجماعة الممانعة تمر في دوامة أزمة مستفحلة، أي لا حل بسيطاً أو ممكناً لها، ولا قدرة لتوظيف القوة أو وهجها أو حواشيها المعتادة لمحاولة تخطيها… أي تماماً مثلما هو الحال راهناً في لبنان حيث الحقيقة عارية وسافرة في عريها، وهذه تقول إن الأزمات المتسلسلة والمكثفة والمتناسلة على المستوى الخدماتي والمؤسساتي والمالي والاقتصادي والاجتماعي هي انعكاس تام وتلقائي للخيارات السياسية التي فرضها حزب إيران على لبنان واللبنانيين، ونتيجة طبيعية لأداء جامح يشبه أداء القيادة الإيرانية في إيران! سوى أن “تفصيلاً” بسيطاً لم ينتبه إليه هؤلاء الأباطرة الممانعون في ديارنا هو أن لبنان ليس إيران، ولا إمكانية فيه لما يمكن أن يصير فيها، عدا عن الحقيقة الموازية القائلة بأن الأصل المأزوم لا ينتج فرعاً مرتاحاً، وأن إيران في أزمة كبيرة وصادراتها نتاج تلك الازمة، وكلما حاولت الهرب منها إلى المدى الحيوي الخارجي المدعى في الهلال المرسوم من طهران إلى بيروت، تعمقّت أزمتها تلك أكثر فأكثر ووجدت نفسها مفضوحة بعجزها: إدعاءاتها أكبر من طاقاتها.
وشعاراتها فضفاضة ولا تعكس الواقع. وقدرتها على كفاية نفسها قاصرة ومعطوبة، فكيف لها أن تعين أتباعها في المدار المحيط؟
والواقع هو أن “نفوذ إيران” لا يعني في الدول التي ضُرِبت به سوى أمرين لا ثالث لهما: حرب أهلية أو أزمات مستفحلة. وبهذا القياس الفتاك يبدو اللبنانيون أكثر حظاً، حتى الآن، من السوريين واليمنيين وإلى حدّ ما العراقيين.
كان يمكن أن ينفجر لبنان أكثر من مرة غداة وراثة حزب إيران نفوذ النظام الأسدي، ونتيجة لأدائه الذاتي والأنوي، ولممارساته ميدانياً وإعلامياً وسياسياً ومذهبياً، لكن ذلك لم يحصل تبعاً لاعتبارات “أهلية” و “لبنانية ” و”وطنية” و”إسلامية ” و”عقلية” عند الغير أكثر بكثير منها عنده.
والحروب الأهلية على ما يقول الثقات والفطاحل تحصل بين طرفين أو أكثر، وكل طرف يعتقد أنه على حق، سوى أن الشعوب والأقوام الذكية هي التي تتعلم من تجاربها وتجارب غيرها وتعرف متى تعلق العمل باليقينيات الذاتية التامة والحقوق الناجزة، وتعرف بالتالي أن الحرائق الانتحارية الداخلية الكبرى لا توفر أحدًا من لهيبها، بل ترمّد كل شيء بما فيه الحقوق واليقينيات والذاتيات.
قبل الآن بقليل، مرّت “فرصة ” الحرب الأهلية على شكل فتنة مذهبية، لكنها لم تحصل. ويعرف حزب إيران تماماً بتاتاً أن لا الأميركيين ولا السعوديين توقفوا عند تلك “الفرصة”، أو حاولوا انتهازها، أو المزح في شأنها، أو الدفع باتجاهها، بل العكس التام هو الصحيح التام، وشهود المرحلة كلهم (أو جلّهم) أحياء يرزقون.
لم يعطّل السعوديون مجلس النواب سنتين ونصف السنة لفرض انتخاب ميشال عون رئيسًا صوريا وصهره رئيسًا فعليا.
ولم يعطّل الأميركيون مقررات مؤتمر “سيدر” الباريسي.
ولم يحاصر الأوروبيون ولا أهل الخليج العربي لبنان وأهله، ولا فتكوا بنظامه المصرفي، ولا تلاعبوا بسعر صرف عملته الوطنية، ولا فرضوا أي نوع من العقوبات المالية والاقتصادية الشاملة أو العامة.
وبالتأكيد لا تتحمل كل تلك القوى والدول التي يتهمها حزب إيران بما يفعله هو، وبما تسبب به هو … لا تتحمل اليوم مسؤولية المهزلة الوطنية العظمى المسماة صلاحيات ميشال عون في تشكيل حكومة إصلاحية، والمستمرة منذ عام تقريباً، ولا مسؤولية التوظيف الأرعن لكوارث اللبنانيين في مفاوضات إيران مع الغربيين في فيينا!
السيرة المألوفة عند الجماعة الممانعة هي أنها لا تسأل أحداً ولا عن أحد عندما تقرر ما تقرره وتريده، لا على المستوى المحلي ولا على المستوى الخارجي، لكنها في الوقت ذاته تريد في حالات التبعات الكارثية لسياساتها وأدائها، أن تحمّل الآخرين مسؤولية تلك الكوارث والتبعات… ولا تخجل!