لم يسبق أن مرّت على اللبنانيين، منذ بشير الثاني الى اليوم، حالة قيادية دستورية كبرى فاقدة للصدقية ولا رباط على كلامها وتعهداتها مثل الحالة الرئاسية القائمة راهناً.
ولم يسبق ان كانت التهتكات المنهجية على هذا القدر من السفور مثلما هي عليه اليوم. تهتكات بالجملة ازاء كل منحى حياتي او سياسي او حزبي او دستوري او شرعي. وهذه تضاف الى نزق شخصي في ممارسة الوظيفة العامة لا يليق بزعران الشوارع، ولا بأي زعران، في واقع الحال.
حتى مكيافيللي نفسه كان عدّل بعض فلسفته الانتهازية وملخصها الأثير عن الغاية التي تبرر الوسيلة، لو قُدّر له أن يعاصر المخلوق الذي ابتلي به اللبنانيون.
عام 2003 وبعد انهيار سلطة صدام حسين في العراق، جاء وزير الخارجية الاميركي آنذاك كولن باول الى بيروت بعد دمشق، وأجرى في المكانين محادثات خطيرة في ضوء تطورات الوضع العراقي، ومن ضمن الذين التقاهم عندنا كان الرئيس الراحل رفيق الحريري.
وأتذكر يومها انني سألته في اليوم عينه عن انطباعاته إزاء المواقف التي سمعها من المسؤول الاميركي فقال لي حرفياً: “ستسمع لاحقاً ماذا قال باول وما يريد من سوريا وتالياً من لبنان، لكن ما لن تسمعه من احد غيري هو انني سألته عن الذي حصل بينكم وبين صدام حتى وصلتم الى قرار الحرب ضده لإزاحته، فأجابني: فقد صدقيته ولم يعد موثوقاً به وفي الوقت عينه يملك قدرات كبيرة”.
رئيس الدولة او صاحب السلطة في الاجمال لا يستطيع البلف في مواقفه الرسمية.
ولا يستطيع الغدر، ولا الكذب، ولا نقض العهود والمواثيق، ولا التملص من الاتفاقات المبرمة، ولا ممارسة التقية بمعناها السلبي، ولا التراجع عن وعد قطعه برضاه.
صفاته الشخصية ملكه لكن ممارسة السلطة العامة والتحكم بمصائر الدول والناس لا تخضع للأهواء الشخصية ولا تؤثر هذه فيها بطريقة حاسمة، او بالاحرى يجب ان لا تؤثر فيها العوامل عينها التي تحكم او تتحكم بالعلاقات بين البشر على المستوى الفردي.
رجل الدولة لا يتصرف كأنه تاجر في سوق بلا ضوابط، ولا كمحام سيئ لا يهمه سوى ان يربح قضية خاسرة، ولا يحق له ان يُظهر انعدام صدقيته في شؤون الدولة ومصالحها وامنها القومي ومصير ناسها، لا مع الغرباء ولا مع المحليين، لا في شأن خارجي ولا في شأن داخلي، لا في العهود والمواثيق الرسمية الدولية ولا في نظيرتها الداخلية، والا وقعت الكارثة وصار الانحطاط سمة عامة.
بشير الثاني كان أميراً في الغدر، وسيداً في الخيانة، واولى ضحاياه كانوا اقرب الناس اليه الذين ساعدوه في تدرجه وفي إحكام سيطرته على الامارة وفي تدبير شؤون البلاد واهلها، من الاخوين باز الى بشير جنبلاط الى المطران يوسف اسطفان وغيرهم، قبلهم وبعدهم كثر.
وبقي في الحكم اكثر من اربعة عقود لكنه سقط في حكم التاريخ وصار لعنة اكيدة ومثالاً على انعدام الأخلاق وتحكّم الهوس في السلطة، الى حد تغييب كل مكرمة اخلاقية وسلوكية وشَرَفية.
الحالة الراهنة التي نحن في صددها تشبه في عناوينها تلك السيرة المقيتة المسجلة في القرن التاسع عشر: الأنا الموتورة والمتضخمة، ونكران الحلفاء، والتراجع عن الالتزامات، والطعن بالتفاهمات واصحابها والغدر بها وبهم وتحكّم الهوس بالسلطة الى حدود العمى التام، واعتماد الإلغاء سياسة مبدئية ومباشرة (وإن كانت بالسياسة وليس بالارواح) وعدم الخفر بالكذب والخداع وتزوير المواقف ومحاضر اللقاءات والاجتماعات “الرسمية” ثم استسهال اظهار انعدام الصدقية امام الديبلوماسيين الاجانب وموفدي الدول الكبرى ورؤساء دول كبرى.
ثم الامعان في التهتك من دون حياء. والتصرف بالدولة وكأنها مزرعة عائلية. وبالدستور وكأنه ممسحة.
وبالقضاء وكأنه سلك زراعي يعنى بحديقة صاحب الدار. وبالاعراف وكأنها ترف لا لزوم له.
وبالميثاق الوطني وكأنه نشيد موسمي.
وبالعيش الواحد وكأنه لزوم ما لا يلزم.
وبانهيار العملة الوطنية والخدمات الاولى والكبرى واذلال الناس وافقارهم وتجويعهم وكأنها هوامش عابرة ليس الا.
ثم الانكى من ذلك والانكر هو خيانة القسم الدستوري من خلال اللعب بسوسة الاختلاف الطائفي والاستثمار فيه وكأنه فضيلة.
ثم الدسّ التحريضي الفتنوي البغيض ضد الغير المختلف سياسياً او غير سياسي. ثم الوقاحة في التملص من مسؤولية الكوارث المتلاحقة والتمسحة في مقاربتها ومعاناة اللبنانيين من جرائها.
ثم الذهاب في الكيد الى حدود التدمير والتخريب.
ثم تسفيه لغة التخاطب وتحقيرها وإنزالها منازل لا تليق بأحد ولا ببلد ولا بولد… فأي انحطاط ضرب الجمهورية وأهلها؟