إن العيش في رحاب “الجمهورية القوية” هو أن تنتظر مطوّلاً وتموت موتاً بطيئاً.
في هذه الجمهورية تعتاد كل أنواع الانتظار: كالانتظار أمام محطات الوقود، والأفران، والمستشفيات، ومراكز الضمان، والصيدليات، والبنوك.
بِتنا نقوى على انتظار ما لا يُنتظر، إلا انتظار بارقة أمل، أعجوبةٍ ما، بصيص ضوء في هذا النفق، رياح عدالة تبدّد هذه الغيوم السوداء.
العيش فيها هو أن تمضي نحو ست سنوات من عمرك بانتظار ما سينجزه “أبو المراجل”، أن تستذكر فرحة الكونتيسا بلباسها الأبيض وهي تحتفل بانتخاب “رئيس صنع في لبنان” وتضحك.
أن تسام الانتظار ويتوقف الزمن.
أن تعيش في الجمهورية القوية يعني أنّك مواطن بلا وطن، أنّك نفس يجب كتمه وروحٌ لا أفق لرفرفة أجنحتها.
أن تعيش فيها معناه أن تكون ملعوناً كسيزيف، كُتب عليك أن تحمل الصخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإن وصلت القمة تدحرجت الصخرة مجدداً لتعيد الكرّة مراراً وتكراراً، وإلى الأبد.
كُتب على سيزيف اللبناني أن يمضي مثقلاً من حرب إلى حرب، أن يعيش أزمة مع كلّ عقد من الزمن، أن ينهار ويبقى على قيد الحياة.
أن تكون لبنانياً في الجمهورية القوية يعني أن تقف بائساً على ناصية الهموم لا حول لك ولا قوّة.
أن تتوسّل جنى عمرك من المصارف التي وضعت أيديها على ودائعك، ولا تستسلم هنا.
بل تعود إلى عملك (في حال لم تطرد منه بعد) على أمل أن تجني ثروة من جديد (فقط إن كان راتبك بالدولار).
أن تبلغك المصارف قرارها الجديد الذي يقضي بتجميد قسم من راتبك الشهري أو حسم 12% من قيمته لتسديد بعض الرسوم للمصرف المركزي كي لا تُغلق أبوابها.
وأن تكون لبنانياً في الجمهورية القوية يعني أن تقدّم راتبك على “طبق من فضة” لأصحاب المولدات، بحيث راوحت تسعيرة الـ5 أمبير بين المليون والمليونين (بحسب المناطق)، أي ما يوازي راتب موظف في القطاع العام. ويعني أن تبحث عن شمعة أو بطارية أو مولّد صغير (في حال كان بإمكانك تأمين المازوت) أو أي بديل بدائي لإنارة منزلك فيما قصر اللقلوق يشعّ بالكهرباء 24/24.
أن تكون لبنانياً في الجمهورية القوية معناه أن تُخيّر بين ذلّ الطوابير أو تغذية مافيا السوق السوداء.
أن تمرض ولا تجد الدواء.
أن لا يتوافر لك الوقود لتوصل أولادك يومياً إلى المدرسة ولا حتى المال لشراء الكتب أو وجود إنارة لإنجاز الفروض المنزلية.
يا لها من جمهورية قويّة ويا لها من قوّة بالفعل يا كونتيسا، أن يكون رئيسك الذي صنع في لبنان قوياً على شعبه الذي جُوّع ورُوّع وهجّر وصار ضعيفاً أمام المافيا والدويلة.
معنى أن تكون لبنانياً؟ تخيّل نفسك قليلاً، تخيّل نفسك تتنقّل من متجر إلى آخر باحثاً عن السلعة الغذائية الأرخص أو نائماً في سيارتك بانتظار وصول دورك أمام محطة البنزين.
حاول أن تدوس على أحلامك وأن تئد طموحك، حاول أن تكون مجرّد رقم على طاولة مفاوضات. حاول أن تلتحق بقافلة المغادرين، لا تهم الوجهة ولا المهنة، الرحيل فقط…
أن تأخذ جواز السفر وتحمل حقيبة مليئة بالذكريات، تترك أمّاً وأباً وربّما أولاداً.
تتشرّد في بلاد الاغتراب، لا تريد سوى المأوى وأبسط مقوّمات الحياة.
يقول لك أحد زملائك الجدد في العمل إنّك تبدو لبنانياً.
فتبتسم، وتقول: كيف عرفت؟ من التعب في عينيك والحزن والقهر والحنين لما كان بالأمس يُسمى وطناً.