“الاعتدال السنّي”… ركيزة بقاء لبنان

12 سبتمبر 2021
“الاعتدال السنّي”… ركيزة بقاء لبنان
خالد صالح
خالد صالح

تتّسم الساحة السنّية اللبنانية بالتعدّد من حيث البُعد التنظيمي، وتتنازعها في الغالب تيّارات مرنة أكثر مما هي تنظيمات حديدية أو حادّة إيديولوجيًّا، ربما لأنه يغلب على السنَّة عدم التقوقع طائفيًّا في مناطق محددة دون غيرهم، ويمتازون بالاختلاط الواسع مع المكوّنات اللبنانية الأخرى، لا سيما أنهم توزّعوا بين المدن الكبرى، فضلًا عن انخراطهم التاريخي في “المقاومة” الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي القابع على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة .

تعدّدت أوجه الفاعلين السنَّة تاريخيًّا، وهي كذلك اليوم. وبالنظر إلى فعاليتهم في الشأن المحلي وقدرتهم على نسج علاقات قوية مع الإقليم، يصعب على أي طرف احتكار التمثيل السنّي، رسميًا أو شعبيًا، على الرغم من أنّ لواء الغالبية منهم معقود لـ”تيار المستقبل” منذ وطئت قدما الرئيس الشهيد رفيق الحريري ميدان السياسة في لبنان أوائل تسعينيات القرن الماضي .

اليوم، وبسبب تنوّع التحدّيات التي تشهدها الساحة اللبنانية وتعقيداتها الكثيرة، ما بين دستوري وسياسي وأمني واقتصادي واجتماعي، يتعرّض السنّة في لبنان إلى ما يشبه “حرب تحجيم”، وإقصاء من المعادلة بسبب سلوكهم نهج “الاعتدال” الذي يرونه “سلاحهم” الوحيد، في خضم حروب شرسة يُباح فيها استخدام كل أنواع السلاح، التقليدي منها وغير التقليدي .

لماذا هذا المدخل؟

منذ تأسيس دولة لبنان الكبير، يلعب السنَّة أدوارًا متقدّمة في عمق السياسة اللبنانية، وقد شكّلوا مع الطائفة المارونية دعامتي الاستقلال الأول، ولم يكونوا “صِداميين” بالمعنى الحرفي للكلمة، فمواجهتهم للكثير من القضايا كانت تأخذ طابعًا مؤسّساتيًا، سياسيًا ودستوريًا، بعيدًا عن لغة العنف والعسكريتاريا، على الرغم مما تعرّضت له الطائفة على مرّ التاريخ من عملية “إلغاء” ممنهجة للكثير من قياداتها، من رياض الصلح وصولاً إلى رفيق الحريري.

اليوم، تُوجّه – بفعل فاعل وعن سابق تصوّر وتصميم – أصابعُ الاتهام إلى قيادات سنّية (نادي رؤساء الحكومة السابقين) بتشكيل “جبهة” هدفها الرئيسي “إسقاط رئيس الجمهورية”، والإيحاء بأنها جبهة “سنّية” تخوض صراع بقاء مع “رئيس ماروني”. وتُستخدم في سبيل هذا الاتهام صنوف من الأسلحة الإعلامية المرصودة لهذه الغاية، عابرين إليه من باب استضعافهم وسلب أدوارهم والتعدّي المتمادي على حقوقهم وقيمة وجودهم في هذا الوطن عبر تاريخه، وأن هكذا جبهة ستعيد إليهم “فردوسهم” المفقود.

دور وتاريخ

مع “التآكل” الذي يضرب الميدان السياسي اللبناني وانهيار الدولة وتعرّض المجتمع المحلّي للتفتت بشكل بات عصيًّا على الإصلاح، وارتفاع الأصوات المنادية بـ”الفيدرالية” طورًا وبـ”اللامركزية الموسّعة” طورًا آخر، نظرًا لتقدّم “الهوية الطائفية” على الانتماء الوطني الصرف، يبرزُ “المكوّن السنّي” بمهمته التاريخية بالحفاظ على ديمومة هذا الوطن، رفضًا لكل أشكال “التقسيم” العلنية أو المبطنة، من خلال تمسّكهم بالعقد الاجتماعي – السياسي القائم حالياً (اتفاق الطائف) – ومعارضة كلّ المساعي التي من شأنها ضرب هذا النظام ضمن الأطر السياسية البعيدة عن أي خطاب طائفي ومذهبي .

تعمدُ هذه الجهات في كيل اتهاماتها إلى التركيز على مسألة “الضعف والارتهان” في قرار المرجعيات السنّية، وأن تشكيل “جبهة” تواجه بشكل علني عوامل “الاقصاء” سواء من الجانب المسيحي عبر رئاسة الجمهورية، أو من الجانب الإيديولوجي عبر “حزب الله”، هو الأسلوب الأنجع في مسار هذه المرحلة. وتمّ تجنيد الكثير من الأقلام والإعلاميين لهذه الغاية، قد يكون في تحميل “تيار المستقبل” أو “نادي الرؤساء” مسؤولية ضعف المكوّن السنّي واتهامه بالتردّد “مبالغة” كبيرة وظالمة، خصوصًا من قِبل الذين يرون أنفسهم من الفاعلين الآخرين في المكوّن السنّي، لأنّ “المستقبل” بادر إلى التصدّي للتطورات المحليّة المتسارعة منذ الانسحاب السوري من لبنان عام 2005 بما سُمّي “ثورة الأرز”، وتصدّر مواجهة التحدّيات التي ألمَّت بالإقليم، بدءًا من الصعود الإيراني، مرورًا بأحداث “الربيع العربي” وتداعياته، خصوصًا في سوريا.

اتهامات جائرة

وتتوزّع هذه الاتهامات من خلال التركيز على أنّ نهج “التفرّد بالقرار” والركون “للانقسام” بغضّ النظر عمّن يصدر، ومهما كانت أسبابه ومبرراته، سيعطي رسالة للشارع السنّي مفادها أنّ الفاعلين السنَّة لا يملكون القدرة ولا الإرادة على حماية حقوق “المكوّن السنّي” الوطنية وخياراته، فضلًا عن تحقيق مكاسب له، لا عن طريق السياسة ولا عن طريق العمل المشترك، مما قد يُنتج فاعلين جددًا، مجموعات أو أفرادًا، أكثر غضبًا وأقل انضباطًا، لا يرون خيارًا إلا الجنوح نحو “التشدّد والعنف” ونبذ “اللعبة السياسية الخاسرة” كما يرونها، خشية من أن يخسر “المكوّن السنّي” مكانته في الكيان اللبناني.

تحاول هذه الجهات – وهي معروفة – تظهير أنّ أحد أهم الأسباب التي تقف وراء التعقيدات السياسية في لبنان هو “الترهّل” الذي أصاب السنّة وقياداتها، وأنّ المواجهة المفتوحة على كل الاحتمالات هي السبيل الوحيد أمامهم لاستعادة ريادة دورهم، بما في ذلك وضع خيار العنف في صلب هذه الخيارات، الأمر الذي يناقض تمامًا رؤية هذا المكوّن الذي يجنح دومًا نحو “العقلانية”، وعدم قطع كل الأوصال مع بقية الفرقاء، وأنّ الاختلافات السياسية يجب أن تبقى ضمن هذا الإطار، لأنّ لغة “الدماء” ليست في قاموسهم. وقد أثبتت كل الأحداث التي عصفت بلبنان أنّ المكوّن السنّي ينبذ بقوة “لغة الميليشيا” و”العسكرتاريا”.

لا يخجل “المكوّن السنّي” من معارضته حين يُعارض، ولا يكتمُ أهدافه أو رؤياه إن أراد تشكيل جبهة معارضة، لأنّ معارضته بنّاءة وديموقراطية وضمن الأطر الدستورية المعمول بها، ويرفض منطق “الجبهات” و”الجبهات المقابلة”، لأنه يُدرك أنّ هكذا أمور ستدفع بالبلاد إلى “الخندقة” و”المتاريس”، ولأنه دائمًا ما يستحضر الدروس من التاريخ ليستشرف معالم المستقبل، فالتجربة اللبنانية على مرّ قرن من الزمن كان المكوّن السنّي هو “همزة الوصل” فيها، و”حجر الرحى” الذي تدور حوله كل القضايا المصيرية.

أثبتت كل الأحداث التي شهدها لبنان أنّ “الكباش السياسي” جائز ما دام يدور في هذه الحلقة، وأنّ المكوّن السنّي هو المرتكز السياسي الأبرز نظرًا لاعتداله ولعمقه الديموغرافي والجغرافي، وأنّ عدم انجراره للصدامات مردّه ليقين هذا المكوّن أنّ المعارضة واجبة، ونبذ العنف والتطرف إيمان.

وهذا هو النهج الحقيقي الذي يجب العمل عليه لترسيخ الوعي الجماعي والممارسة السياسية للنخب القائمة في لبنان.