للمرة الأولى ربما، لا يتوقف معظم اللبنانيين أمام الحسابات السياسية التي افضت الى ولادة الحكومة الجديدة.
ولا ينخرطون كثيراً في الجدل المألوف والمعتاد في مثل هذه الولادات، وفي تفسيرها والاستطراد في ذلك الى حدود تصوير لبنان نقطة ارتكاز المنطقة والعالم! والعقد الذي يقوم عليه بنيان السلام والاستقرار الاقليميين والدوليين.
ولا بأس بذلك طالما ان علم النفس يقدم تفسيرا معقولا لهذه الحالات، ويضع الهلوسة النافخة في الذات رديفاً حتمياً لتقدم ضمور تلك الذات: وكلما زاد الضمور زادت احلام اليقظة المضادة حتى تصير هذه هلوسة صافية لا صلة لها بالواقع، وبعض اللبنانيين مصاب بهذا العارض حكماً وواقعاً على الرغم من التجارب المريرة التي سُجّلت على مدى العقود الماضية، والتي أثبتت بأن بلد الارز “والرسالة” ودرّة الشرق، لا يوازي في حسابات الدول القادرة ومصالحها بئر نفط واحدة، ولا يوضع مصيره في اي ميزان خارج سياق تأثيره في أمن إسرائيل اولاً وأساسًا… ثم على صيرورته ملجأ لفائض الشعوب المقهورة في دولها، من الفلسطينيين بداية الى السوريين لاحقا.
اما غير ذلك فلا يضير أحد الاكثار من الاشعار والصلوات والادبيات الحاكية والباكية عن فرادة لبنان ومدى نبوغ اهله في الوطن والمهجر، وفي المهجر اكثر من الوطن !
لكن ليس انكفاء عموم الناس هذه المرة عن المغالاة في ممارسة تلك الهواية الخطيرة، دلالة على شفاء منها او نتيجة اتعاظ من التجارب والتاريخ، او اقترابا من الوعي الحميد بالحال والاوزان والاحجام والاقدار، بل يصح الافتراض وفق القياسات الماركسية (لمن يشاء ولهواة النوع!) بأن الفكر انعكاس لواقع مادي.
وطريقة التفكير تحكمها الحقائق المنظورة، وهذه بدورها توصل الى الماورائيات بكل اصنافها وأنواعها (المفارقة ان التفسير المادي يوصل الى الروحاني مع ان المقصود هو اعدام تلك الخلاصة)… وعليه، طغت هموم العيش وتفاصيلها المصيرية الخطيرة على السياسة والاصطفافات المتصلة بها والمنسلّة منها، حزبياً ومذهبياً وطائفيًا ومناطقياً، وصارت حجّة الخلاص أقوى الحجج وأمضاها تأثيرًا ونفوذًا وطغيانًا… بعدما أوصل عهد ثنائي ميشال عون و”حزب الله” اللبنانيين الى الغريزة الاولى، الى اشتهاء بديهيات هذا الزمان وظواهر الحداثة والعصر ومتطلبات الانسان “الحديث”.
من الطاقة بكل انواعها، كهرباء ومحروقات ومياه الشرب والاستخدام المنزلي الى حبة الدواء وصولاً الى القلق المتفجر على دوام توافر رغيف الخبز وعمل شبكات الاتصالات والتواصل بين الناس، الى غير ذلك من تفاصيل معروفة.
وعلى الرغم من ذلك، يمكن الظن بسعادة اذا أمكن، بان حكومة نجيب ميقاتي وُلدت غصباً عن ميشال عون وجبران باسيل، وقفزاً فوق رغبتهما وارادتهما وسياستهما، وكسرا لمنطقهما وانخراطهما في لعبة اخذ اللبنانيين رهائن ثم البحث عن ثمن خاص مقابل اطلاقهم… حاول الفصيحان مشاركة “كبار الخاطفين” في الدور والمردود فاصطدما بالحائط ونزفا وحدهما في اللحظة الأخيرة: اراد عون ضمان دور صهره المستقبلي فدمره حكما وحتما، وأرادا معاً مساومة الاميركيين للتراجع عن العقوبات التي فرضوها على باسيل فلم يحصلا على شيء، ولم ينتبها الى ان واشنطن لا تتنازل إزاء الابتزاز السياسي خصوصاً اذا كان من النوع الغبي والانتحاري الذي اعتمده الفصيحان على مدى الاشهر الماضية من خلال تسعير ازمات البلد والناس ومحاولة الاستثمار فيها.
ما فعلته طريقة توليد حكومة ميقاتي هي تثبيت المعادلة القائلة بان الإرادات الذاتية المحلية اللبنانية لا تزال في علم الغيب وعالم المستحيلات، وبأن القرارات الكبيرة تُتخذ خارج لبنان وجبال الصوان، ويكفي اللبنانيين “فخرا” هذه المرة أن المتحكمين بهم أخلوا سبيلهم قبل فوات الاوان، وقبل ان يكتمل احتراق ورق خطفهم ويصبح عديم الفائدة والمردود!