لو بقي أمر تشكيل الحكومة معقوداً لجبران باسيل وعمه، لما كانت خرجت الى النور، ولما كان اللبنانيون يعيدون اليوم تجميع شظايا آمالهم المتكسرة، علها تستقيم في بعض جوانبها.
كان الأمر مفهوماً منذ البدايات والى الخلاصات: صاحب القرار المركزي في كربجة عجلة التشكيل وإراحة الوضع اللبناني العام كان حزب ايران ولخدمتها وحسابها.
ورقة من أوراق المساومة المفتوحة مع الأميركيين والغربيين في الاجمال لكن على طريقة القيادة من الخلف: في اليمن عبر بني حوث، وفي العراق عبر الحشد الشعبي، وفي سوريا عبر الميليشيات الرديفة لبقايا سلطة الاسد وان اختلفت الصورة في تفاصيلها، وفي لبنان من خلال حزبها القائم بأعمالها والمنفذ الأمين لارادتها وتوجهاتها مع حبة مسك زيادة.
وكان باسيل وعمه ولا يزالان واجهة إضافية تكمل العقد ولا تفرطه…الحزب وسلاحه واجهة إزدواجية غير شرعية بالمعنى الدستوري وعون وصهره واجهة سياسية دستورية لا غبار عليها، أي إن الثانية تؤدي دور واجهة الواجهة وتعطيها في الشرعية ما تملكه الاولى في الشارع.
والواجهتان في خدمة طهران أساساً وتوابعها فرعاً (سلطة الاسد). ولهما ان يوظفا المسار العام لخدمتهما “شرط ” ان لا يؤثر ذلك على وظيفة خدمة الاصيل الايراني، وتابعه الدمشقي بنسبة أقل، وبحسب المستطاع!
واشتغل الثنائي عون وصهره وفق هذا المسار “بأمانة” مشهودة! أخذا كثيراً وقدّما أكثر.
بل الأرجح هو انهما اشتغلا وفق قياساتهما الذاتية التي تحسب أن القرار الايراني هو الواجهة لسياساتهما ونياتهما وليس العكس.
والفرصة التي يؤمنها هذا الحجاب لا تعّوض، شيء رباني وعطية سماوية، أن يعملا على نسف اتفاق الطائف وكسر الدستور وتحطيم المؤسسات الشرعية التي أعيد بناؤها خلال العقود الثلاثة الماضية وتدمير كل قطاع جرى ترميمه وبما يخدم سردية خطيرة مفادها العام إن الحقوق مسلوبة، وان الذي سلبها لم يقدم بديلاً ناجحاً أو وطنياً أو حداثياً عنها.
ان يحصل ذلك كله خلف ذلك الحجاب الخارجي السميك المركون تحت خانة مشروع الولي الفقيه والنزاع الايراني – الاميركي! ثم خلف الحجاب المحلي المتمثل بحزب ايران و”همومه” الاكبر من لبنان الجغرافيا والدور والسياسة، فذلك من دون شك تدبير ربّاني حميد ومشكور.
في الزقاق الذي سلكه هذ الثنائي باتجاه اهدافه القصوى كانت عثرات ومطبّات غير مأنوسة ولا مرغوبة على الاطلاق. كأن يظهر ان الرئيس لا تهمه قصة الحقوق المسلوبة إلّا بقدر ما تخدم سعيه الى توريث صهره، وان تنحدر شؤون العيش وبديهياته الى أقعار لم تترك لبنانياً بمنأى عنها بما أحال التعبئة الطائفية إلى عبء لا يحتمله احد، ووضعت الضخ الغرائزي القميء في مكانة خلفية، والتحريض العنصري البغيض في زاوية العتمة الشاملة التي غطّت كل شيء… لا الليرة المنهارة تدل على هوية طائفية أو حزبية لحاملها، ولا الكهرباء المغتالة تعود الى الحياة عند جماعة لبنانية دون غيرها، ولا المياه المقطوعة تصل الى البيوت بهمة القديسين او الأولياء أوالائمة الصالحين، ولا الادوية المتبخرة تعاود “الظهور” على المؤمنين من هذه الملّة او تلك، ولا ندرة المحروقات تطال قوماً وتعوّف غيرهم، ولا رغيف الخبز ممهور بختم الفئة الناجية او المتقدمة، ولا الكرامات المهدورة بسبب العوز والفقر تُسجّل تبعاً للقيد الطائفي، ولا الطبقة الوسطى لحظت في تراجعها الى سوية الطبقة المستورة والمتواضعة، فروقات عنصرية او مذهبية او سياسية او مناطقية… تبين لذلك الثنائي ان سياسة الارض المحروقة على الطريقة الاسدية لا “تتلاءم” مع الجغرافيا البشرية اللبنانية ولا مع طبائع اللبنانيين ولا تناسب اللاعبين الاخرين الكبار ولا تتناسب، قبل ذلك كله، مع الاحجام والقدرات المحلية لمشعلي تلك الحرائق مثلما لا تتناسب مع الادوار المرسومة لهم!
اشتغل ذلك الثنائي لحسابه لكنه شطح بعيدا، وفي لحظة الاستحقاق أُعيد الى الصفّ والانصياع، ليسمع مرة اخرى درسا مستحقا في الاوزان والاحجام والأدوار والحدود المسموح له ان يلعب ضمنها وليس خارجها! ومن ذلك، ان القرار الكبير بإطلاق سراح التشكيل من الأسر يُتخذ تبعًا لحسابات الايراني وحزبه المحلي، وليس تبعاً لنوازع التوريث الرئاسي عند عون وصهره، برغم انهما قدما كل شيء، وصار شعار “سيادة حرية واستقلال” على يديهما لغوا فارغًا ولا يساوي قشرة بصلة امام “سيادة” إيران في الموقع الدستوري اللبناني الاول، و”حرية” تصرفها في المسار والمصير الوطنيين، و”استقلال” حزبها إزاء الدولة وسلطاتها الشرعية ومؤسساتها الدستورية.