وسط احتفالات الممانعة اللبنانية والعربية باستعادة النظام السوري قوته وسيطرته على 90 في المئة من أراضي البلد، والتهليل بأوان توبة الجميع وعودتهم صاغرين للتطبيع مع دمشق، لا بل حاجة العالم وأقويائه لهذا الاستحقاق إذ لا تستقيم أمور الكون وحركة اقتصاده وخطوط طاقته من دونه… وسط ذلك، وصلت إلى موسكو الأسبوع الماضي شحنة جوية ليلية بدّدت كل الهراء.
الشحنة الجوية كانت الرئيس المنتصر في الميادين والانتخابات بشار الأسد نفسه، الذي استدعي في ليلة معتمة الى موسكو، وحيداً غير مصحوب حتى بعلم بلاده، على غرار الوفد اللبناني حين زار دمشق.
يمكن تخيل مدى كآبة الأسد حين شُحن على عجل ليجد نفسه على كرسي بجانب “الطاووس” فلاديمير بوتين. يقول الأسد لنفسه: “ما عدا ما بدا ليغير المعلم بوتين تعامله معي؟ أما كان يكفي أن يرسل أحد معاونيه ولو نائب وزير ليبلغني ما يريد فأنفذ الأوامر كالعادة خلال سنوات؟ لماذا تعمد الإيغال بالاذلال في هذا الوقت”؟
يكاد المرء “يتعاطف” مع هذا الأسد المهان في صميم مشاعره، التي لم تهزها المجازر والمحارق بحق السوريين. لكن بسرعة تطغى لذة التشفي والشماتة به وبكل الممانعين أدعياء السيادة والقرار والاستقلال.
كانت الصورة كافية بلا حاجة لأي كلام. قيل أن بوتين قال أشياء وان الأسد رد بكلام. هذا ليس مهماً.
فالصورة قالت نيابة عن بوتين: الأمر لي.
أنا الذي ساندتك حين كدت تنهار وساندتك لتقوى وتتوسع من جديد، أبقيتك رئيساً ونظمت انتخاباتك فلا تسْكر على هتافات بعض المنافقين فتظن للحظة أنك رئيس جمهورية مستقلة تقرر وتتصرف كما تشاء.
أنت لا تعدو أكثر من رئيس جمهورية صغيرة في الاتحاد الروسي، مثل ابخازيا، لا بل حاكم إقليم في الاتحاد.
كثيرون تذكروا مشاهد إهانة عديدة من الروس للأسد، خصوصا الفيديو الذي يظهر ضابطاً روسياً يمنع الأسد من التقدم لمرافقة الرئيس الروسي خلال استعراضه القوات في قاعدة حميميم أواخر العام 2017، بينما تعمّد الروس إظهار مشاهد ترحيب بوتين بالضابط في جيش النظام والشبيح الموالي لموسكو، سهيل الحسن، الملقب بالنمر.
يدرك الأسد بالتأكيد أن لا سلطة له ولا وجود حقيقياً له خارج الوصاية الروسية، وهو على ما يبدو تهون عنده المهانة بين حين وآخر مقابل البقاء على كرسي يذكره بأمجاد عائلية داستها ثورة شعبية قبل أن تسقط هذه الثورة، حين غض العالم النظر عن جحافل كسرى وأساطيل القيصر الجوية والبحرية وهي تغزو هذا البلد العربي.
لكن اذا تعمقنا أكثر وراء الإهانة الجديدة، رأينا حاجة بوتين لا لتذكير الأسد بأنه صاحب القول الفصل في الشأن السوري، بل لإفهام من يهمه الأمر في العالم أن أي تفاوض على سوريا أو عبر سوريا أو فوق سوريا أو تحت سوريا لا يتم الا من خلال موسكو وحدها ولو كثر اللاعبون في الساحة.
من حق الأسد أن يظن ان الانتخابات الرئاسية التي ربحها في أيار الماضي ستوفر له استقراراً سياسياً لـ 7 سنوات هي مدة الولاية الرئاسية وفقا للدستور المعتمد في 2012، باعتبار أن موسكو ألقت بثقلها لتمرير هذه الانتخابات، وبالتالي فإن الحسابات ما عادت مظلّلة باحتمالات مسار الآستانة المعني بالاطار السياسي للحل السوري.
لكن يبدو أن لدى موسكو أسباباً لعدم ترك الأسد مطمئناً الى مصيره للسنوات السبع المقبلة، اذ بوجود إدارة أميركية تنسحب من نقاط انتشارها في العالم، يمكن توافر أرضية واسعة للتقاطع بين القوة الروسية وبين الضعف الاميركي لترتيب بؤر “ربط نزاع” في أماكن عدة، وبما يؤمن المصالح الروسية على مدى أبعد وأرسخ بكثير مما توفره “سوريا المفيدة” المقيدة بحدود وعلى تماس مع لاعبين اقليميين مثل ايران وتركيا.