تكاد تكون قد انتهت الطرق التقليديّة لتدخل الدول في شؤون الدول الأخرى مثل الاستعمار أو الانتداب أو الاحتلال العسكري الكلاسيكي المباشر (باستثناء فلسطين الذي يبقى احتلالها عاراً على جبين البشريّة جمعاء). ثمّة وسائل أخرى حديثة استنبطتها الدول ذات المشاريع التوسعيّة التي تهدف من خلالها إلى تصدير أفكارها ورؤيتها نحو المحيط، ومن ثم تركيع الساحات التي تبسط نفوذها إليها عبر التغلغل التدريجي في مرافقها ومؤسساتها ومجتمعاتها.
ولعل الطريق الأسرع لتحويل مسار الدول وتبديل هويتها الوطنيّة والدخول في مشروع إسقاط أسسها ومرتكزاتها، يكون من خلال سياسة الإفقار المتعمد والمنهجي، وهو ما يتحقق من خلال نهج تعطيلي للمؤسسّات الدستوريّة، وعبر تكوين قوى عسكريّة وأمنيّة تقوّض سلطة الدولة المركزيّة وتهمشها تدريجيّاً وتضعف مرافقها وتستبيح سيادتها.
إن سياسة الإفقار تتيح للدول المسيطرة بناء المؤسسات الموازية للمؤسسات المركزيّة التقليديّة، وتفسح المجال لاستغلال الظروف الاجتماعيّة والمعيشيّة الصعبة للمواطنين بهدف شراء ولائهم للخط السياسي، وهو ما يجعل السيطرة من الأسفل إلى الأعلى تمرّ بمراحل عديدة وأحياناً ببطء شديد إنما بأهداف واضحة ومحددة ومرسومة سلفاً.
حالة الإفقار التي وصل إليها الشعب اللبناني ليست صدفة، وهي ليست أيضاً كما يدّعي البعض من الثوار والحراكيين أنها صنيعة الطبقة السياسيّة اللبنانيّة مجتمعة. صحيحٌ أن معظم مكوّنات هذه الطبقة تتحمّل المسوؤليّة بشكل أو بآخر عن الوضع المزري الذي وصلت إليه البلاد، ولكن، هل يمكن إنكار أن اختطاف القرار السياسي في البلاد نتيجة الإخلال العميق بموازين القوى هو الذي أدّى إلى ما أدّى إليه من تدهور؟
هل يمكن التغاضي عن كل الإفشال المتعمّد والمتكرر لمعظم المحاولات الإصلاحيّة التي جرت في البلاد والإصرار على إيصالها إلى أفق مسدود؟ وهل يمكن صرف النظر عن “شراء” أطراف سياسيّين معيّنين صمت وولاء أطراف أخرى، من خلال إرساء معادلة تقوم على مبايعة في الخيارات الاستراتيجيّة مقابل تسليمها مفاصل أساسيّة في السلطة؟ أليست تلك الخيارات الاستراتيجيّة الخاطئة التي تتناقض مع تاريخ لبنان وموقعه العربي ودوره ورسالته هي التي أوصلت إلى هذه الحالة من الخناق العربي على لبنان بشكل لم يعهده في تاريخه ومنذ الاستقلال؟
إن التزامن التدريجي المريب بين تسلم السلطة من أطراف معيّنين مقابل المبايعة في خيار تسليم البلد إلى محاور إقليميّة، ينذر بعواقب وخيمة لأنه يعمّق الانقسام الداخلي وبالتالي يوّسع مجالات التدخل والسيطرة، إن لم يكن السطوة على القرار السياسي في لبنان وسياسته الخارجيّة وخياراته الاقليميّة والاستراتيجيّة.
لقد بات تبديل هذه المعادلة صعباً للغاية بعدما تجذّرت في تكوين لبنان السياسي والاجتماعي، وأيضاً بسبب سياسات الانكفاء العربي واللامبالاة الغربيّة التي تركت المساحات اللبنانيّة قابلة لأن تنحرف في الاتجاهات التي انحرفت إليها راهناً.
إنّه إجتياح من نوع آخر. إذا كان اجتياح الجيوش يواجه بالمقاومة الشعبيّة، فكيف يُواجه اجتياح المازوت، على سبيل المثال؟