إنه زمن الانتخابات بامتياز، سواء في العراق على الحدود مع إيران او في لبنان على الحدود مع إسرائيل.
ففي انتخابات العراق، يأمل الغرب والغالبية العظمى من العرب أن يختار العراقيون نظاماً لا يتماهى كثيراً مع طهران. وفي لبنان يأمل الفريقان (الغرب والغالبية العظمى من العرب) أن يختار اللبنانيون تركيبة سياسية جديدة لا يتحكم بها “حزب الله” ولا يراهن عليها الايرانيون لتوسيع الجغرافيا المذهبية من جهة وتعزيز اوراق التفاوض مع الأميركيين في فيينا من جهة ثانية.
ففي العراق، تريد ايران جبهة محاذية للاردن ومنطقة الخليج، وتريد في لبنان استمرارا لجبهة محاذية لإسرائيل والبحر المتوسط، وهي في الحالتين تسعى للضغط على خصمين أساسيين حليفين للولايات المتحدة ويشكلان في الكثير من المفاصل العقبة الاصعب في وجه الثورة الإسلامية وطموحاتها العقائدية والسياسية والعسكرية والاقتصادية.
وليس سراً أن طهران تريد أن تفعل ذلك عبر الوسائل الناعمة هذه المرة، اي الانتخابات في مكان والمغريات في مكان آخر، بعدما لمست ان القوة العسكرية لن تكون العنصر الذي يمر من دون تداعيات او ردود فعل تشبه ما أصاب صدام حسين حين خرج من وكره في مغامرات أدت في النهاية الى اطاحته كحاكم وتهشيم العراق كدولة ومجتمع متعدد المذاهب والانتماءات والولاءات.
وتعرف ايران، أنها لم تستطع السيطرة على لبنان بعد “غزوة” السابع من أيار، نظراً الى الالغام المحلية والاقليمية والدولية المزروعة في تركيبته المعقدة، لكنها تعتقد انها تستطيع ذلك من خلال انتخابات تشبه تلك التي أجريت قبل اربع سنوات ومكّنت “حزب الله” من انتزاع غالبية مريحة سمحت له بالهيمنة على كل مفاصل الحياة في البلاد من دون ضربة كف .
وليست زيارة وزير الخارجية الإيرانية عبد الأمير اللهيان إلا محاولة استباقية لشدّ العصب الشيعي الذي تعرض في الفترة الأخيرة لنوع من التململ والتشكيك، وتوحيد قوى الممانعة خلف ائتلافات انتخابية يمكن أن تقود الى غالبية نيابية جديدة قادرة على تأمين انتقال رئاسي هادئ ومضمون لا فراغ فيه ولا عراقيل ولا ضغوط من اي نوع.
والواقع أن اللهيان، أجرى في بيروت ما يشبه عرض القوة أكثر منه عرض الخدمات، محاولاً أن يقول لمن يعنيهم الأمر، ما كان يقوله حافظ الأسد في زمن الاحتلال السوري، “نحن شعب واحد في دولتين”، لكن مع إضافة جديدة تقوم على معادلة “نحن جيش واحد في دولتين”.
وأكثر من ذلك، لم يتردد الوزير الايراني في قول ما لم يقله الرئيسان ميشال عون ونجيب ميقاتي في البيان الوزاري الأخير، مجدداً الإضاءة على مثلث “الشعب والجيش والمقاومة” ومطلقاً التهديات المبطنة في اتجاه إسرائيل على مرمى حجر منها، ومكرساً لبنان محوراً أساسياً في صراعات المنطقة بقرار إيراني مباشر.
ولا شك في أن اللهيان كان يحرص من خلال كل جولاته ولقاءاته وتحركاته في لبنان على إرسال إشارات مباشرة في غير اتجاه، تفيد بأنه يتجول في “مقاطعة” ايرانية وفي حماية “حزب الله”، وان لا أمر فيه يؤخذ بعيداً من دوائر طهران.
ولا شك في أن العروض التي قدمها الى المسؤولين اللبنانيين بخصوص مشكلة الكهرباء والمرفأ تحديداً، لم تكن اكثر من محاولة هوائية لتبرئة “حزب الله” مما اصاب لبنان جراء تحالفه مع ايران ومغامراته العسكرية في غير مكان، وإفهام البيئة الشيعية ان خيارهم لم يكن في غير محله، وإفهام كل الاخرين ان ايران، على الرغم من الحصار والعقوبات، تستطيع ان تفعل في لبنان ما تشاء من دون الحاجة الى اي غطاء رسمي من أحد، او مباركة علنية من الولايات المتحدة، على غرار ما حدث في قوافل المازوت الايراني .
وليس أدل من ذلك إلا اعلان رئيس بلدية الغبيري القريب من “حزب الله” استعداده لتحويل ملعب الغولف في الضاحية الجنوبية الى محطة يبني عليها الايرانيون واحداً من معملي الكهرباء اللذين تعهّد بهما الوزير الايراني خلال زيارته الاخيرة.
وليس ادل من ذلك أيضا إلا صمت الرئيسين عون وميقاتي حيال ما يفعله “حزب الله” وما تخطط له ايران، وهو صمت يحمل موافقة ضمنية أكثر منه عجزاً فاضحاً، خصوصاً ان الرئيس اللبناني يبدي استسلاماً او تسليماً شبه مطلق حيال عرابه الشيعي، وان ميقاتي يبدي تراخياً واضحاً يهدف من خلاله الى عدم استفزاز الايرانيين من جهة وعدم “تهشيل” العالم السني من جهة اخرى.
ولا يختلف اثنان على ان عروض اللهيان ليست الا محاولة لاحتواء “الايجابية” اللبنانية حيال المسعى الاميركي لاستجرار الكهرباء من الاردن، وتحريك ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والقوطبة تالياً على أي مبادرات عربية او دولية، تنعكس على مزاج الناخب اللبناني وتدفعه نحو خيارات جوهرية يمكن أن تأخذ الغالبية النيابية المقبلة في اتجاه آخر.
وما فعله الوزير الايراني فعله حسن نصرالله في وقت سابق عندما سارع الى الترويج للمازوت الايراني، في وقت كانت واشنطن تلحّ عبثاً على الرئيس ميشال عون للاعلان عن مشروع الغاز المصري والكهرباء الاردنية، في محاولة منها لسحب القرار الافتصادي من يد “حزب الله” والحد من الهيمنة الايرانية فضلاً عن تعزيز هيبة الرئاسة الاولى من جهة ثانية.
الاندفاعة الايرانية الجديدة قابلتها وتقابلها في الواقع اندفاعة فرنسية واميركية واوروبية، في اتجاه الحركات والتيارات البعيدة عملياً ونظرياً عن الاحزاب والمنظومات السياسية والتقليدية المعروفة، في محاولة لتكوين قوة سيادية ضاغطة داخل البرلمان الجديد، وإعادة التوازن الى التركيبة السياسية في البلاد، وتأمين انتخابات رئاسية هادئة وفي موعدها، تأتي برئيس لا يكون صدامياً في مكان ولا يكون تابعاً في آخر.
وفي حين يحاول المجتمع الغربي توحيد صفوف المعارضة اللبنانية لخوص الانتخابات النيابية ضمن ائتلاف واحد، تحاول إيران وحلفاؤها، اي سوريا و”حزب الله”، توحيد صفوف الممانعة، وتحديداً التيار الوطني الحر وتيار المردة، ولا سيما في الدائرة الثالثة في الشمال، لمنع المجتمع المدني والمستقلين والقوات اللبنانية من تحقيق خروقات يعتدّ بها، اضافة الى إصلاح ذات البين بين النائب جبران باسيل وحركة “أمل”، وتصويب بعض المسارات التي شهدت تباينات وتناقضات لافتة بينه وبين “”حزب الله” في عدد من الملفات الادارية والقضائية والانتخابية وسواها.
ويُجمع عدد كبير من المراقبين على ان كلام اللهيان على مناخ ايجابي مع السعودية، ليس الا كلاماً هوائياً يهدف الى تهدئة السنة في لبنان واطلاق اشارات ايجابية في اكثر من اتجاه، مؤكدين ان اي تقارب مع الرياض لا يمكن ان يقوم ما دام صاروخ حوثي واحد يسقط على اي هدف سعودي، وهو أمر لم يحدث حتى في حده الادنى، وما دام “حزب الله” يسيطر تماماً على القرار اللبناني ويضخ شحنات الممنوعات عبر المرافق البرية والبحرية نحو المملكة، وهو امر لم يتوقف لا من قريب او بعيد.
ويسأل هؤلاء المراقبون، لماذا تعرض ايران مساعدة لبنان وتتجاهل حليفتها سوريا المدمرة والمحاصرة، وكيف يمكن لها أن تبني المعامل والمرافئ والانفاق من دون ضوء اخضر من الولايات المتحدة التي تمسك بيدها مفاتيح اي تحرك اقتصادي او مالي اقليمي برا وبحرا وجوا، ومن دون موافقة اسرائيلية لا يمكن ان تأتي الا عندما تتخلى ايران عن برنامجها النووي، وعندما تدفع لبنان في اتجاه تطبيع كامل، وعندما تجرد “حزب الله” من سلاحه وتحول الحدود اللبنانية – الإسرائيلية الى منطقة آمنة ترعاها قوات دولية .
ويقول هؤلاء على خط آخر، إن اي خطوة اقتصادية او عمرانية يمكن ان تقوم بها ايران من دون اعتراض سعودي – اميركي، سيعني حكماً ان الايرانيين سيأخذون في لبنان ما اخذه حافظ الاسد بعد حرب الكويت، متسائلين عن الخدمة التي يمكن ان تقدمها طهران مقابل ذلك، وهي الخدمة التي لن تكون اقل من انهاء الحرب في اليمن والانسحاب من سوريا ولجم “حزب الله” والتخلي عن الطموحات العسكرية النووية وتلك الباليستية.
وفي الانتظار، وقبل معرفة التنازلات التي يمكن ان تقدم هنا وهناك، يخوض الايرانيون والاميركيون آخر معاركهم في لبنان، الا وهي الانتخابات النيابية، وسط اجواء تفيد بأن من يربح هذه الجولة سيملك الكلمة الفصل، ليس في لبنان وحسب بل في بقعة واسعة من العالمين العربي والاسلامي.
انه السباق الاخير بين عدوين يرى الاول انه بات قريبا جدا من ابتلاع لبنان، والثاني بات على اقتناع بأن الوقت لم يفت بعد لتسجيل نقلة نوعية تفرمل اندفاعة “حزب الله”، وتقفل محطة من محطات الهلال الايراني، وتقطع الطريق على اي رئيس للجمهورية يكون نسخة منقحة عن ميشال عون.