كم تجربة دموية أخرى يحتاجها “حزب الله” ليتأكد أنّ سلاحه “القوي” ضد إسرائيل في الخارج يصير شيئاً ملتبساً في الداخل أمام المكوّنات الوطنية المتشاركة معه في الجغرافيا وأشكالها وشروطها؟
وكم مرّة سيدخل في امتحان التركيبة اللبنانية ويفشل؟ وكم مرّة سيعيد وضع حساباته وفق مصالحه وانطلاقاً من ذاتيته ويصطدم بحقائق غيره “الوجودية” ويفشل؟ وما هي تلك الحسابات والقراءات التي تفرض إعادة “المحاولة” الفاشلة عينها ولا ترتدع! ولا تتعظ! ولا تعيد النظر في المنطلقات حتى لو كانت هذه منسلّة من قناعات سماوية راسخة؟ ولماذا كل ذلك الغلو في مكان مفتوح ورحب؟ والاصرار على مقاربة السياسة والاجتماع وسائر خلق الله من زاوية القوة والعنف والفرض، ومن نقطتين لا ثالث لهما: السلاح والمذهب؟ ولماذا الثبات على نهج تبيّنت أن نتائجه عكسية؟ ولماذا كل تلك المكابرة وذلك الانكار في غير موضعهما، بحيث أنّ محاولة تأكيد الجبروت والقوة لم ولا توصل سوى إلى تأكيد الضعف والهشاشة؟! ولماذا كل مشكلة تتحوّل قضية وكل قضية تتحوّل معركة وكل معركة تصبح حرباً وكل خصم يصبح عدواً وكل مختلف يصير عميلاً وكل آخر يصير ملعوناً ومهدور الدم، وكل متمايز يصير منبوذاً وكل مجتهد يصير مذموماً وكل خارج عن الصف يصير خائناً، وكل ناصح يصير ساقطاً ومندسّاً، وكل وسطي يصير مشتبهاً فيه وكل منطقي يصير مشكوكاً بأمره وأمر من خلّفه وربّاه؟!
ولماذا تستبطن هذه الأسئلة عدمية الأجوبة عليها، سلفاً وأكيداً؟ ولماذا لا يمكن الافتراض بإمكان مجادلة (انسَ الإقناع) الممتلئ بذاته وسلاحه وقوته، ولا يرى الدنيا إلا نزالاً وقتالاً بين فسطاطين، وهو دائماً الرائد في فسطاط الحق والقائد في ساحاته التي قد تمتد على ثلاث أو أربع قارات! بعد أن تمرّ على دول وشعوب محيطة! قبل أن تعود إلى الكيان المحلي حيث القياس عينه، وكل داخل مختلف هو امتداد لمؤامرة خارجية أكيدة! وكل آخر يرفع الصوت اعتراضاً وتبرّماً بالسياسة والإعلام هو جزء من مشروع لا ينتهي لضرب “المقاومة” وتكسير نهج انتصاراتها ومنعها من السير المظفّر باتجاه الصهاينة لتحقيق الوعد الربّاني إزاءهم!
توسّعت، وطالت لائحة أعدائه وأخصامه، وأول هؤلاء هو ذاته! الحزب المدرّع باليقينيات واللغة الخاصة والأداء الحاد والغرور المدمّر “وضعف السمع”… وقلة الاكتراث بالآخر وأشيائه وبالمكان وتنوّع أهله وروّاده، وبالدولة ووظيفتها وسلطتها وبالدستور ومبادئه الجامعة والحاكمة، وبالقانون وضرورته الحتمية وبالسياسة ومعناها الأول، وبالثقافة بما هي سعة أفق وبالاقتصاد الحديث بما هو شرط تواصل حتميّ وبالإعلام المفتوح بما هو سمة العصر وشرط رؤية العالم والناس وبالتنمية بما هي صنو العيش في عالم اليوم، وبالمدنية بما هي عنوان للحداثة وآلياتها… وبالجغرافيا البشرية والأرضية بما هي أساس القرار والأداء وبما هي (في لبنان) أصل الموضوع وفصله وأوله ونهايته، بحيث “أنك لست وحدك”! وإيمانك ملكك، لكنه ليس عاماً ولا يمكن ذلك! ويقينياتك حر فيها، لكن تعميمها دونه “خرط القتاد”، ومشروعك الذاتي دونه استحالة التعميم على الآخر المختلف، وارتباطاتك الخارجية ديناً وعقيدة وتمويلاً ليست حكراً عليك، بل هي علامة فارقة من علامات الاجتماع السياسي والديني اللبناني… ومثلما تفترض وتؤمن بأنّ لك طريقاً خاصاً إلى السماء، فإنّ غيرك مثلك أيضاً، يؤمن يقيناً بأنه يملك طريقاً أوسع وأضمن إلى تلك السماء عينها، وأنّ ربّه اصطفاه مثلما تظنّ أنّ ربّك اصطفاك! وإنّه الفئة الناجية مثلما تعتقد بأنك تلك الفئة المحظوظة بوعد النجاة الأخيرة في عالم البقاء بعد عالم الفناء !
قيل وسيقال دائماً: لا يحتمل الاعتدال المناخي اللبناني مشاريعَ حارّة ومتطرّفة ودائمة الغليان! ولا يحتمل التنوّع الطائفي والمذهبي فرضاً لأي أحادية آتية من ذينك البعدين والأمرين.
مثلما لا تحتمل التركيبة الوطنية نقيضين غريبين هما: طغيان الدولة أو غيابها التام! هنا السلطة ليست تامة لأصحابها بالدستور والقانون، بل كانت ولا تزال، قبل الحرب منتصف سبعينات القرن الماضي ولا تزال، موزّعة بالطول والعرض.
قبل الحرب على وجوه وأعيان زعاماتية محلية ومعهم شيء من الكنيسة والجامع وأشياء من التراث العشائري المديد، ثم مع أحزاب وحركات مطلبيّة وطالبية لم تعرف دائماً الحدّ الفاصل بين الحرية والفوضى، وبين حقّها بالتحرّك وحقّ الدولة باحتكار السلطة والعنف… وبعد الحرب وحتى اليوم، بالالتباس الذي كان ولا يزال متبادلاً: غياب تلك الدولة يعني مشكلة أكبر وأخطر من حضورها النسبي، وهذا ما كان وصار منذ الانفجار الكبير عام 1975 إلى أن وضعت الحرب أوزارها وبقيت أشكالها ومنها الأحزاب السياسية أو العائدة من العسكرة إلى المدنية، لكنّها كرّست حضورها الموازي والأكيد، وصارت عنواناً بمعطى مذهبي أو طائفي محض، بعد أن غابت العناوين الأخرى عن أدبياتها وبرامجها وسلوكياتها !
وبالتالي، فإنّ الدولة التي لم تحتكر السلطة بالدستور والقانون، وكانت ولا تزال نسبية في شؤونها وشجونها ومؤسّساتها، لا تترك تجربتها مجالاً رحباً لدويلة آتية من زاوية مذهبية وطائفية خاصة ومرتبطة بمشروع خارجي فضفاض، ويعادي ثلاثة أرباع البشر ويحمل نوازع شديدة الأنوية دينياً وقومياً… وفوق ذلك وتحته، تعتمد أداء “غير مدني” في بيئة صعبة أصلاً وممارسةً، وتنوّعاً عزّ نظيره، وانفتاحاً مستداماً واعتدالاً جبرياً بقدر ما هو اختياري لأسباب ثقافية واقتصادية ومالية واجتماعية.
لو ينتبه حزب إيران قبل فوات الأوان إلى الجغرافيا اللبنانية، وإلى أنّ الارتباط الناجح بالخارج الإيراني لا يعني النجاح في استحضار إيران إلى لبنان.
وهذه بديهة يفترض أن لا تكون موضع جدال… أو تجارب فاشلة ومميتة!