المرحلة الجديدة من التوتّرات السياسية والأمنية التي انتقل إليها لبنان يُنتظر أن تزيد من معاناة اللبنانيين وصعوباتهم المعيشية، لا سيما أنها ستنعكس على عمل الحكومة لمدّة من الزمن قد تطول أو تقصر وفقاً للمخارج التي سيجري اعتمادها لمعالجة الانقسام حول عمل المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار، ومطلب الثنائي الشيعي بتنحيته.
في انتظار التوافق على هذا المَخرج، فرض الفصل الدموي الذي شهدته منطقة الطيونة مستعيدة المخاوف من تجدّد الحرب الأهلية، معادلات جديدة قد يصبح المسرح السياسي أسيراً لها، فتؤدّي إلى شلل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي كانت تتهيأ لبعض الخطوات الهادفة إلى التخفيف من ضرر الانهيار الاقتصادي المالي على الظروف الحياتية للبنانيين على كل الأصعدة.
بات مصير الحكومة معلقاً على معادلة طرحها الثنائي: إما إقالة القاضي البيطار أو تعليق عمل الحكومة بتجميد مشاركة الوزراء الشيعة ووزيري تيار “المردة” في اجتماعاتها.
وفي وقت أُعلن عن أنّ المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي وممثل المجموعة العربية فيها لدى المجلس التنفيذي للصندوق الدكتور محمود محيي الدين، سيبدأ الأسبوع المقبل زيارة للبنان، ضمن برنامج التعاون بين لبنان والصندوق بشأن خطة الدولة للتعافي الاقتصادي؛ من الطبيعي السؤال عن أي تفاوض وتعاون يمكن أن يحصل إذا استمرّ الشلل الحكومي على خلفية استمرار الخلاف على تنحية أو عدم تنحية القاضي البيطار.
فالمصادر المعنية بعودة الحكومة إلى وتيرة عملها الطبيعي، الذي يتيح لها إطلاق المفاوضات مع صندوق النقد، لا ترى مَخرجاً قريباً من تعليق اجتماعاتها، على رغم الجهد الذي يبذله الرئيس ميقاتي من أجل إيجاد المخرج الملائم سواء بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى أو عبر وزير العدل.
على رغم من أنّ ميقاتي شدّد بعد لقائه مع وزير العدل هنري خوري ورئيس مجلس القضاء والمدّعي العام التمييزي غسان عويدات على أن تتخذ السلطة القضائية ما تراه مناسباً بنفسها، فإنّ المَخارج المطروحة كلّها سياسية للموضوع القضائي المتّصل بالتحقيقات في جريمة انفجار مرفأ بيروت، التي يعتبر الثنائي الشيعي أنّ البيطار يقوم بها بطريقة استنسابية ومسيّسة.
يعوّل بعض الأوساط على أن يكون المَخرج الذي يفتح باب استعادة الحكومة وتيرة عملها في اجتماع مجلس القضاء الأعلى الثلثاء المقبل مع القاضي البيطار، ويقضي بأن تُعاون الأخير هيئة التهامية تكون شبيهة بهيئة تحكيمية لها رأيها بقراراته بالادّعاء على مَن ادّعى أو ينوي الادّعاء عليهم، طالما هو يرفض التنحّي عن ملف التحقيق في ملف انفجار المرفأ كما نقل عنه، وتبلّغت بموقفه هذا أكثر من جهة قضائية وسياسية وإعلامية.
إلا أنّ دون هذا المَخرج موانع تبدأ بأنّ ما من قانون يفتي باجتهاد من هذا النوع، فضلاً عن أنّ البيطار قد يعتبره تقييداً لعمله، إضافة إلى أنّ هذا المَخرج لن يبدّد هواجس “حزب الله” وحركة “أمل” بالشكوك التي لديهما من أنّ البيطار يهيّئ لقرار ظنّي يشمل اتهام الحزب بمسؤولية ما عن انفجار المرفأ.
وثمة مَخرج آخر قيد التداول أيضاً، يقضي بالعودة إلى الاقتراح القديم لرئيس البرلمان نبيه برّي، بأن يعلن مجلس القضاء موافقته على أن تتم ملاحقة النواب والوزراء الذين ادّعى عليهم البيطار عبر المجلس النيابي والآلية التي تنصّ عليها المادتان 70 و71 من الدستور، أي أن يتم التحقيق معهم من هيئة نيابية ويحالوا على المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والنواب والوزراء، فيما يواصل المحقّق البيطار تحقيقاته مع كبار الضباط والموظفين.
وهو خيار يقود إلى تجزئة التحقيقات وإضاعة نتائجها بين التحقيق العدلي والتحقيق البرلماني والتحقيق الذي يجري ضمن الجسم القضائي، مع قضاة مشتبه في مسؤوليتهم عن الشق القانوني لإبقاء نيترات الأمونيوم في المرفأ، فيحول ذلك دون إظهار المعطيات السرّية التي لدى البيطار والتي يتردد أنّ “حزب الله” يتوجّس منها.
إلا أنّ اقتراحات وأفكار المَخارج هذه، لا يبدو أنها تعالج الشق السياسي الذي طرح نفسه بقوة بعد الصدامات الدموية الخطيرة في الطيونة.
على هذا الصعيد، بات لبنان أسير معادلة ثانية يطرحها الثنائي الشيعي: مقابل الدم الذي سقط في مرفأ بيروت والضحايا التي قتلها الانفجار فيه هناك، الدم الذي أُريق في الطيونة وتسبّب بسقوط سبع ضحايا من جمهوره. ومقابل المطالبة بكشف الحقيقة في انفجار المرفأ وسط احتمال الادّعاء على “حزب الله”، يطلب الثنائي الادّعاء على الجهة التي أطلقت النار على المتظاهرين من أنصاره وأنصار حركة “أمل”، متهماً سلفاً حزب “القوات اللبنانية” ورئيسه سمير جعجع، مطالباً بالادّعاء عليه بتهمة إعطاء الأوامر لمناصريه بإطلاق النار على المتظاهرين.
والشق الثاني من هذه المعادلة يقحم البلد، سياسياً وإعلامياً كما هو حاصل على الشاشات وفي وسائل الإعلام، في سجال حول السلاح الظاهر الذي حمله المتظاهرون من مناصري الثنائي الشيعي والتي ادّعت قيادة الحزب و”أمل” بأنهم من النخبة والمحامين الذين نزلوا في التظاهرة السلمية، في وقت أظهرت الصور الموزّعة على مواقع التواصل الاجتماعي كمية السلاح الفردي وقذائف الـ”آر بي كي” التي حملوها…
المعادلة الثالثة التي سيكون المسرح السياسي والأمني والحكومي أسيراً لها، والمتصلة بالمعادلة السابقة، هي طرح “حزب الله” استعداده لتحمّل المسؤولية في عدم الانجرار إلى الفتنة التي تهدف اشتباكات الطيونة إلى التسبّب بها، مقابل أن يتحمّل سائر المسؤولين في السلطة اتخاذ التدابير من أجل التصدّي للجهات التي تقف وراء التصدّي للمتظاهرين، فيما حدّد الحزب هذه الجهات سلفاً بأنها إضافة إلى حزب “القوات”، أميركا والسعودية.
والمقصود بـ”تحمّل المسؤولية” هو الجيش وقيادته وسائر القوى الأمنية، في ظل اتهام المؤسسة العسكرية بالتنسيق مع الجانب الأميركي بفعل الدعم الذي يتلقّاه من واشنطن والدول الغربية، التي تحرص على إصدار بيانات التأييد للقاضي البيطار وتساند القوى السياسية المعارضة للحزب والتي تصعّد حملتها عليه منذ أشهر.
واستهداف الجيش برز في حملات الجيش الإلكتروني لـ”حزب الله” على المؤسّسة العسكرية بأنها غضّت النظر عن المسلّحين الذين تصدّوا لمناصريها.
إلا أنّ هذا كله يزيد من انغماس الدول المعنية بلبنان أكثر وأكثر في أزماته المتوالدة على الصعد السياسية والاقتصادية والحياتية والأمنية، ليتعمّق غرق المسرح اللبناني في صراع المحاور وأزمات المنطقة.
هذه المعادلات لا تأسر الحكومة والمسرح السياسي فحسب، بل تأسر “حزب الله” تحت سقف مطالب يؤدّي فرضها على سائر الأفرقاء اللبنانيين الى نتائج تراوح ما بين تقويض ما تبقى من مؤسّسات الدولة لمنطق فائض القوة، وبين السعي من أجل الاستثمار السياسي للنتائج المأساوية والدموية للصدام المسلّح في الطيونة.
وهو استثمار حصيلة المعادلات التي يعمل الحزب في ظلها على جرّ البلد نحو المجهول.