لم يستهدف الخطاب الأخير للأمين العامّ لـ”حزب الله” حسن نصرالله سوى تأديب اللبنانيّين وتدجينهم عبر تأديب المسيحيّين والقول لهم بصريح العبارة إنّ مستقبل وجودهم في البلد مرتبط بالحزب الذي تسامح معهم في الماضي وتجاوز كلّ الأخطاء التي ارتكبوها… وحماهم من “داعش” والتكفيريّين.
ممنوع على أيّ لبنانيّ الاعتراض على أيّ تصرّف يُقدِم عليه الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوريّ” الإيرانيّ، في وقتٍ تعتبر فيه “الجمهوريّة الإسلاميّة” لبنان مجرّد جرم يدور في فلكها… بل تعتبره ورقة من أوراقها في انتظار المفاوضات مع “الشيطان الأكبر”.
لم يكن الهدف من حملة حسن نصرالله على سمير جعجع سوى حلقة أخرى في سلسلة التعامي عن الحقيقة. الأكيد أنّه أدّى خدمة كبيرة لرئيس “القوات اللبنانيّة” الذي باتت حياته مهدّدة بكلّ تأكيد
تحدّث حسن نصرالله بلهجة فوقيّة. أراد القول للمسيحيّين إنّ لديه مئة ألف مقاتل في استطاعته استخدامهم ضدّهم، وإنّ مستقبل وجودهم في لبنان مرتبط بمشيئة “حزب الله” ليس إلّا.
كلّ ما في الأمر أنّ مسلّحين مسيحيّين في حيّ عين الرمّانة جَرُؤوا على إطلاق النار على متظاهرين غير سلميّين كانوا يعتدون على ممتلكاتهم ويطلقون هتافاً مذهبيّاً، دخلوا منطقتهم، في ظروف مريبة، يوم الرابع عشر من تشرين الأوّل الجاري.
كان مطلوباً من سكّان الحيّ الرضوخ لمشيئة “حزب الله” وتفادي أيّ مقاومة من أيّ نوع.
كان مطلوباً أن يتصرّفوا بالطريقة نفسها التي تصرّف بها أهل بيروت يوم السابع من أيّار 2008 عندما قرّر الحزب غزو العاصمة اللبنانيّة والجبل الدرزيّ.
في الجبل الدرزيّ حصلت مقاومة ارتأى وليد جنبلاط وقفها تفادياً لعمليّة تهجير واسعة لقرى معيّنة.
في ذلك اليوم، وهو “يوم مجيد” من وجهة نظر الأمين العامّ للحزب، نفّذت الميليشيا التابعة له في بيروت إعدامات بدم بارد في حقّ البيارتة من أجل إرهابهم وجعل الذعر يدبّ في قلوبهم.
هؤلاء الأبرياء، الذين أعدمهم مقاتلو الحزب علناً فيما كانوا يُطلقون شعارات مذهبيّة، معروفة أسماؤهم.
لم يقبل أهل عين الرمّانة تكرار سيناريو غزوة بيروت.
تصرّفوا على طريقة دروز شويّا. وقفوا صفّاً واحداً، بِمَن في ذلك العونيّون منهم، في وجه تلك الهجمة غير المبرّرة على حيّهم.
هذا ما يرفض حسن نصرالله الاعتراف به. استعاض عن الحقيقة بحملة مبرمجة على سمير جعجع رئيس حزب “القوات اللبنانيّة”.
التقى في حملته على جعجع مع جبران باسيل الذي يعتقد أنّ الهجوم على رئيس “القوات” سيوصله إلى موقع رئيس الجمهوريّة، وسيُرضي إيران وبشّار الأسد. كان لافتاً أنّ حسن نصرالله وزّع علامات الرضا على جبران باسيل وزعيم “المردة” سليمان فرنجية بالعدل والقسطاس. هذا لن يُرضي صهر رئيس الجمهوريّة، في طبيعة الحال، الذي يعتبر أنّه انبطح وتزلّف ما فيه الكفاية أمام “الجمهوريّة الإسلاميّة”، وأنّ الخدمات التي قدّمها لتغطية السلاح غير الشرعي، وهو سلاح إيرانيّ، تجعله يستحقّ الوصول إلى قصر بعبدا على غرار ما حصل مع ميشال عون قبل خمس سنوات.
يقوم خطاب حسن نصرالله على نقطة واحدة. تلك النقطة هي إخفاء الحقيقة، بما في ذلك حقيقة ما حلّ بمسيحيّي سوريا، حيث النظام المتواطئ مع “داعش”.
يجهل أنّ أهل جزّين في جنوب لبنان بقوا تحت الاحتلال الإسرائيلي عشر سنوات إضافيّة برغبة من “حزب الله” نفسه، وبناءً على طلب من حافظ الأسد الذي أزعجه الانسحاب الإسرائيلي تنفيذاً للقرار 425 في أيّار من العام 2000. لا جميل لدى “حزب الله”، لا على أهل جزّين ولا على أيّ مسيحيّ، باستثناء ميشال عون الذي نسي أنّه كان حليف صدّام حسين في أثناء وجوده في قصر بعبدا بين 1988 و1990.
الحقيقة تفضح.
لذلك لا بدّ من التعامي عنها والتخلّص منها بكلّ الوسائل المتاحة، بما في ذلك التهديد بالسلاح ومئة ألف مقاتل. لا بدّ من التعامي عن أنّ “حزب الله” صار يقرّر مَن هو رئيس الجمهورية اللبنانية، وصار يقرّر هل يستطيع رئيس الوزراء المكلّف تشكيلَ حكومة أم لا.
لا بدّ من التعامي عن الاحتلال الإيراني للبنان.
هذا الاحتلال لم يقبل به مسيحيّو عين الرمّانة، فكان مطلوباً معاقبتهم ومعاقبة اللبنانيين عبرهم.
يعرف الأمين العامّ للحزب الحاكم كلّ شاردة وواردة في لبنان والمنطقة العربيّة والعالم وفي داخل إسرائيل. لكنّه لا يريد أن يعرف مَن قتل رفيق الحريري ورفاقه، ومَن نفّذ كلّ محاولات الاغتيال الناجحة والفاشلة، بدءاً بتفجير مروان حمادة، وصولاً إلى اغتيال محمد شطح، ومروراً في طبيعة الحال بكلّ الذين سقطوا على درب إحكام إيران سيطرتها على لبنان.
من سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وباسل فليحان… إلى بيار أمين الجميّل وأنطوان غانم ووليد عيدو وفرنسوا الحاج ووسام عيد ووسام الحسن.
لا حاجة في طبيعة الحال إلى التذكير بحرب صيف العام 2006 ونتائجها المدمّرة. لكنّ ما لا مجال لتجاهله أنّ هناك حرباً أهليّة، بل ما هو أسوأ من حرب أهليّة، يشنّها “حزب الله” في لبنان.
هذه الحرب الأهليّة صارت واقعاً في ضوء الوضع السائد الذي حوّل لبنان، بفضل “حزب الله” ولا أحد غيره، إلى دولة مفلسة وأرض طاردة لأهلها.
ما هو أسوأ من الحرب الأهليّة سلاح “حزب الله” الذي يحمي الفساد من جهة، ويرفض معرفة الحقيقة في تفجير مرفأ بيروت من جهة أخرى.
لماذا يخاف الحزب من الحقيقة؟ لماذا لا يريد معرفة مَن جاء بنيترات الأمونيوم إلى بيروت، وخزّنها في العنبر الرقم 12 طوال سنوات، تزامناً مع بدء النظام السوري استخدام البراميل المتفجّرة بديلاً من الأسلحة الكيميائية؟
لم يكن الهدف من حملة حسن نصرالله على سمير جعجع سوى حلقة أخرى في سلسلة التعامي عن الحقيقة.
الأكيد أنّه أدّى خدمة كبيرة لرئيس “القوات اللبنانيّة” الذي باتت حياته مهدّدة بكلّ تأكيد.
بدا حسن نصرالله في وضع مَن لا يريد قول ما يجب قوله.
أراد قول إنّ لبنان صار تابعاً لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”، صار إقليماً من أقاليمها.
انتصرت ثقافة الموت في كلّ المنطقة. انتصرت إيران وحزبها.
ما على اللبنانيّين سوى أخذ العلم بذلك…