ليس في لبنان هذه الأيام سوى ظواهر غير مسبوقة تتوالى بطريقة استثنائية وتدل في جملتها غير المفيدة على أن الأيام الآتية قد تكون أسوأ من تلك التي مرت وعبرت.
من ذلك مثلاً، أن تكون المواقف التي اطلقها “السيد الوزير” الاسدي جورج قرداحي هي الصاعق الذي فجر برميل البارود واخرج دول الخليج العربي مسافة اضافية بعيدة عن مخزون الرحابة والتفهم لاحوال لبنان واللبنانيين مثلما كانت عليه الحال ايام زمان …تبعاً للسياسات التي اعتمدها حزب ايران وحليفه الاثير تيار رئيس الجمهورية ميشال عون.
وليس سراً ان دول مجلس التعاون الخليجي كانت في قاعة الانتظار تترقب الخطوة التالية من جهة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي لتبني على الشيء مقتضاه على الرغم من ان هذه الحكومة محكومة بسقف المحور الايراني ولا تخرج فوقه، او بالاحرى لا يمكنها ذلك طالما انها جاءت بالأصل والأساس تعبيراً عن ارادة ذلك المحور اكثر من كونها تعبيراً عن ارادة دولية، فرنسية وغير فرنسية، تطلعت الى تشكيلة اختصاصيين الى حد بعيد ومهمتها اخراج لبنان من الحفرة العميقة التي انزله اليها ذلك المحور بقضه وقضيضه، وبسياساته الرعناء المتماهية حفراً وتنزيلاً مع سياسات طهران واهوائها الجامحة.
ولم يعد مصطلح القطيعة غريباً على السمع للمرة الاولى في تاريخ لبنان الحديث عموماً وفي تاريخ العلاقات مع الخليج العربي، دولاً وشعوباً خصوصاً… إذ ان الممسكين بالقرار اللبناني الشرعي والشارعي لم يتركوا طريقا مفتوحا الا وسدوه بحجارة مواقفهم على الرغم من الأوضاع الكارثية للبلد، ولم يلحظوا في مواقفهم الرعناء سوى مقدار ملاءمتها لارتباطاتهم الايرانية من جهة وحساباتهم الجهوية الخاصة من جهة ثانية. وفي الأمرين سلبيات اكيدة وملموسة على المسار والمصير الوطنيين!
ولم تكن القطيعة المحتملة واردة قبل الآن بقليل، بل الذي يعرفه كثيرون هو ان دول الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية وضعت على الرف الكثير من ملاحظاتها السلبية ازاء ما تعرضت له من جماعة ايران في لبنان ومن سياسات العهد العوني… وآثرت ان تقف مرحليا على رصيف الحياد وتراقب من بعيد مآل الحال اللبناني مراعاة لاهل البلد وللجهود الفرنسية لمحاولة إنقاذه ودفعه (ولو غصباً عن كباره الصغار) الى بدء مسيرة اصلاحية لا مهرب منها ولا مفر… والانتظار ذاك لم يكن مكتوم الشعار ولا هواية عبثية بل العكس هو الصحيح، بحيث ان اصحاب الحل والربط، اي جماعة ايران في الشرعية والشارع، كانوا يعرفون تماماً وبالتفصيل الممل والحيوي، ان شروط الدعم الخارجي الغربي والعربي تتصل وترتبط ارتباطاً محكماً بعروة وثقى بالاصلاحات الاساسية البنيوية ماليا واقتصاديا ومؤسساتنا من جهة وبالعودة الى تعريف سياسات لبنان الرسمي الخارجية من جهة ثانية. اي تثبيت وترسيخ كونه دولة عربية تامة تلتزم الاجماع العربي كلما توفر ذلك، وتنأى بنفسها عن الانقسامات المحورية عندما تبرز ازاء اي قضية عربية عامة… اي ان تعود تلك الدولة الى مسارها الاول التاريخي والمعروف وان تعيد إحياء دورها الرائد كمثال يحتذى في الانفتاح والرحابة والوسطية على الرغم من كل الاهوال التي مرت عليها وعلى اهلها في العقود الماضية .
وأول شروط ذلك المسار، أن تلتزم الدولة اللبنانية شعارها المستجدّ بعد انطلاق الثورة السورية، أي النأي بالنفس عن تطورات الجوار، القريب والبعيد خصوصاً وان ما فيها يكفيها! ومشاكلها اكبر من طاقاتها وإمكاناتها، وأن يترافق ذلك مع تتماته المنطقية، أي الدفع باتجاه وضع الاستراتيجية الدفاعية المقترحة منذ ايام الرئيس ميشال سليمان موضع البحث الجدي في أقل الاحتمالات بما يعطي اشارة ايجابية تدل على سلوك طريق معالجة فعلية لقصة ازدواجية السلاح والقرار، وانهاء كارثة تدخل حزب ايران في مواقع “القتال الايرانية”، بالنيابة عن ايران! ولمصلحة ايران! ولحساب إيران! وما عناه ويعنيه ذلك من أدوار عسكرية وأمنية وتخريبية (تهريب المخدرات على انواعها) طالت الأمن الوطني لمعظم الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية .
وعلى الرغم من كل شيء، وكثرة المثالب والارتكابات والممارسات الغلط في حقها، وقفت تلك الدول على الرصيف تراقب وتنتظر عبور اصحاب الشأن الحكومي والرسمي اللبناني باتجاه منتصف الطريق لملاقاة الاحتمالات الايجابية الممكنة، ومحاولة البناء على الفرصة السانحة من خلال تشكيل الحكومة الجديدة وفتح باب التفاوض مع الجهات الدولية المانحة، لكن خيبة الامل هي التي عبرت الى الجهة الاخرى! وهي التي حكمت سلوك اصحاب القرار وتحكمت بالمسار اللبناني آخذة إياه الى الاندثار خدمة لايران واجندتها أولاً وثانياً وثالثاً… وعاشراً. وبدلا من ان يرعوي هؤلاء، رأفة بهم وبالبلد وأهله، راحوا الى الغلو في التبعية لإيران، ومواكبة مناوراتها التفاوضية مع الاميركيين والغربيين في شأن ما يهمها ويهمهم! وفي متابعة السلوك المعتاد المكرس محلياً لسيطرتهم على مفاصل القرار السيادي اللبناني بما يعنيه ذلك من ترجمات تتصل بالتحقيق العدلي في انفجار المرفأ او بتفجير الشارع في الطيونة او بالدفع الى استخدام القضاء ضد المناوئين والاخصام السياسيين، وصولاً الى متابعة الحملات الاعلامية والسياسية السافرة العداء والافتراء ضد السعودية والامارات وسائر دول مجلس التعاون الخليجي!
القطيعة الخليجية كانت موجودة وخفرة وغير معلنة او معتمدة رسمياً، وكان الحياد السلبي اسمها الحركي اذا صحّ التشبيه، لكنها بعد سقطة الضحل قرداحي وما تبعها من اداء رسمي قاصر وغير حاسم، وفي ظل التمسك به وبما عبّر عنه (بضحالة) وعلى الرغم من “التوضيح” الذي خرج من الرئيسين عون وميقاتي، فإن تلك القطيعة قد تصير قراراً رسمياً مكتملاً مع ما يعنيه ذلك من تداعيات كارثية إضافية على اللبنانيين في الاجمال.