نجا الكاظمي من الاغتيال.. فهل تنجو منه الدولة العراقيّة؟!

11 نوفمبر 2021آخر تحديث :
نجا الكاظمي من الاغتيال.. فهل تنجو منه الدولة العراقيّة؟!
د. فادي الأحمر
د. فادي الأحمر

بالأمس نجا مصطفى الكاظمي من محاولة اغتيال.

خرج بعد ساعات على العراقيين والعالم مطمئِناً. دعا العراقيين إلى “ضبط النفس من أجل العراق ومستقبل العراق”.

أعاد الحادث التأكيد أنّ الرجلَ رجلُ دولة. لا عجب في ذلك.

فهو يريد بناء دولة. ربّما هذه مشكلته.

طبعاً، ليس مع الغالبيّة الساحقة من العراقيين. فهؤلاء صوّتوا بالأمس لمصلحة الدولة.

لا بل أكثر من ذلك، صوّتوا ضدّ “الدويلة” في العراق.

مشكلة الكاظمي هي تحديداً مع الذين يريدون بناء “دويلة” في العراق على حساب الدولة، على غرار “دويلة حزب الله” في لبنان. وهم يقتدون بها.

لذلك، وقبل أن يزول الغبار الذي خلّفته الصواريخ الموجّهة على منزل رئيس حكومة العراق، توجّهت أصابع الاتّهام إلى الفصائل الموالية لإيران.

بعد ساعات نقلت وكالة “رويترز” عن مصادر أمنيّة عراقية أنّ كتائب حزب الله وتنظيم عصائب أهل الحقّ هما وراء محاولة اغتيال الكاظمي، وأنّ طهران كانت على علم.


التطمينات التي أكّدها الكاظمي في زيارته “الاقتصاديّة” لطهران في أيلول الماضي، وتأكيد رغبته في الحفاظ على أفضل العلاقات ضمن احترام سيادة واستقلال العراق، لم ترُق لإيران. فهي تريد عراقاً خاضعاً لسيطرتها


إنّها محاولة اغتيال “وقحة”، على غرار الاغتيالات التي حدثت في لبنان. فهي أتت بعد يومين على التظاهرات العنيفة التي نظّمتها الميليشيات الإيرانية على بوّابة المنطقة الخضراء وسقط فيها 125 جريحاً، 27 فقط من المدنيّين والباقون من القوات الأمنيّة! (على عكس ما يحدث عادة في التظاهرات العنيفة في مختلف دول العالم).

لكن أبعد من المواجهات الأخيرة بين الدولة و”الدويلة” في الشارع، هناك عدّة أسباب وأحداث ومؤشّرات تؤكّد أنّ طهران هي مَن اتّخذت قرار التخلّص من الكاظمي. لماذا؟

1- خسارة الحشد الشعبي الانتخابات النيابية الأخيرة لمصلحة التيار الصدري الذي يرفض سيطرة إيران على العراق، وسيطرة الميليشيات على الدولة.

بحسب الدستور العراقي (المادة 76): “يكلِّف رئيس الجمهورية مرشّح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء”. وهذه الكتلة هي كتلة مقتدى الصدر (73 نائباً).

لذلك تخشى إيران تحالفاً بين الصدر والكاظمي يؤدّي إلى عودة هذا الأخير إلى رئاسة الحكومة.

محاولة التخلّص من الكاظمي هي رسالة إيرانية إلى الداخل والخارج مفادها أنّ الانتخابات لن تغيّر شيئاً في معادلة سيطرتها على الدولة والأرض (أليس هذا ما يحدث في لبنان منذ العام 2008؟).

2- عمل الكاظمي من خلال رئاسته الحكومة على تقوية مؤسّسات الدولة العراقية وقواها الأمنيّة بعد اندحار داعش. وهذا ما تعتبره إيران تهديداً مباشراً لمشروعها في استنساخ النموذج الإيراني في البلد الجار.

وهي ترفض أيضاً سياسة مكافحة الفساد التي وعد بها الكاظمي وبدأ العمل بها فعليّاً.

صحيح أنّ الرجل لم يعتقل أيّاً من رموز إيران الفاسدين، لكنّه جَرُؤ على استعادة سيادة الدولة على المنافذ البرّيّة، حيث تخسر الخزينة ما يقارب 13 مليار دولار سنويّاً بسبب سيطرة الأحزاب والميليشيات عليها.

لذلك شنّت الميليشيات العراقية حملة ضدّ مكافحة الفساد متّهمة إيّاها بالتسييس وبأنّها تستهدفها (وكأنّنا في لبنان!).

3- تعتبر إيران وميليشياتها في العراق أنّ الكاظمي هو رجل واشنطن في العراق.

قبلت به رئيساً للحكومة في العام 2020 لاستيعاب الشارع المُطالِب بمكافحة الفساد الذي كان أبرز رموزه سياسيّين موالين لإيران، لكنّها ترفض استمراره في السلطة. لذلك اتّهمته بعض ميليشيات الحشد الشعبي بالتواطؤ مع الأميركيين في اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، ونائب رئيس الحشد الشعبي في العراق أبو مهدي المهندس.

وهي ترفض الاتفاق الذي أبرمه الكاظمي مع الرئيس الأميركي جو بايدن في تمّوز الماضي من واشنطن، والقاضي بإنهاء “المهمّة القتالية” للقوّات العسكرية الأميركية في العراق بحلول نهاية العام الجاري، وتحويل مهمّته إلى “التدريب وتقديم المشورة للجيش العراقي”. فهي تريد خروجاً نهائيّاً لهذه القوات، ليس فقط من العراق، إنّما من كلّ المنطقة. وكان المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي قد صرّح بأنّ “إخراج القوات الأميركية من المنطقة سيكون الصفعة الأقوى للردّ على اغتيال قاسم سليماني”.

4- أبعد من علاقة الكاظمي بواشنطن، ترفض إيران إعادة التموضع السياسي للعراق وتحسين علاقاته بالدول العربية. فهي لم تستسِغ مبادرة الكاظمي إلى عقد “قمّة بغداد للتعاون والشراكة” في شهر آب الماضي، خاصة أنّ التمثيل العربي كان لافتاً.

وقبلت على مضض بالبيان الختامي الذي أكّد دعم “جهود الحكومة العراقية في تعزيز مؤسسات الدولة وفقاً للآليّات الدستورية”، وإجراء الانتخابات النيابية تحت الرقابة الدولية.

ويبدو من خلال محاولة الاغتيال أنّها تريد إجهاض الحوار مع المملكة العربية السعودية الذي كانت أولى جلساته في بغداد بوساطة من الكاظمي وبهدف تخفيف الاحتقان في المنطقة.


لاستشراف المرحلة المقبلة يجب قراءة المشهد العامّ في شرق العراق وفي غربه وجنوبه، لأنّ الواقع الجيوسياسي العراقي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتطوّرات الجيوسياسية في المنطقة


التطمينات التي أكّدها الكاظمي في زيارته “الاقتصاديّة” لطهران في أيلول الماضي، وتأكيد رغبته في الحفاظ على أفضل العلاقات ضمن احترام سيادة واستقلال العراق، لم ترُق لإيران.

فهي تريد عراقاً خاضعاً لسيطرتها، إذ إنّ أيّ إعادة تموضع له في المنطقة ستشكّل تهديداً لـ”الهلال الشيعي” ولكلّ مصالحها في المنطقة، خاصّة أنّ العراق هو بوّابتها البريّة إليها.

السؤال اليوم: هل يكون عراق ما بعد محاولة الاغتيال غير ما قبلها؟

لا شكّ أنّ الحادثة مفصليّة.

ولكن لاستشراف المرحلة المقبلة يجب قراءة المشهد العامّ في شرق العراق وفي غربه وجنوبه، لأنّ الواقع الجيوسياسي العراقي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتطوّرات الجيوسياسية في المنطقة.

فماذا يتضمّن هذا المشهد؟

1- عودة التيّار المتشدّد إلى السلطة في إيران تشير إلى تشدّد إيران في الحفاظ على نفوذها في المنطقة.

في هذا الإطار تندرج معركة مأرب في اليمن، وتصلّب حزب الله في مواقفه في لبنان على الرغم من الانهيار الكبير، وتطوّر الوجود العسكري والسياسي والديموغرافي في سوريا على الرغم من الغارات الإسرائيلية والضغوطات الروسية.

2- مقابل التشدّد الإيراني نرى موقفاً متخاذلاً للإدارة الأميركية الجديدة. منذ وصوله إلى السلطة لا يقدّم جو بايدن سوى التنازلات لطهران لإعادتها إلى طاولة المفاوضات.

في اليمن رفع جماعة الحوثي من قائمة الجماعات الإرهابية.

وفي لبنان قبل بتشكيل حكومة يتمثّل فيها حزب الله، لا بل يسيطر عليها.

وفي سوريا يستعدّ للانسحاب في مقابل استمرار الوجود الإيراني العسكري والسياسي فيها.

وعلى أهمّيّته لواشنطن من حيث إنّه يملك خامس احتياط نفطيّ في العالم، وثاني منتج في منظمة أوبك بعد المملكة العربية السعودية، لا يبدو أنّ العراق سوف يشذّ عن هذه القاعدة على الرغم من الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي فيه.

3- عربيّاً، يستمرّ الموقف ضعيفاً في مواجهة إيران، ويفتقر إلى استراتيجيّة واضحة وفاعلة. سيطرة حزب الله على لبنان مستمرّة.

ولا يبدو أنّ الضغوطات الدبلوماسية من جانب المملكة، ومعها الكويت والبحرين والإمارات، ستؤتي أُكُلها (إلا إذا تشكّلت جبهة سياسية من الأحزاب والشخصيات المناهضة لسطوة حزب الله على الدولة وفرضت نفسها لاعباً على ساحة لبنان الداخلية ومحاوِراً إقليمياً ودولياً).

ولا ضمانات بأنّ عودة سوريا المنتظرة إلى الجامعة العربية ستؤدّي إلى فكّ تحالفها مع إيران أو أقلّه تراجع نفوذها فيها.

في مقابل هذا المشهد حيث تبدو إيران ممسكة بقوّة بأوراقها في المنطقة، يجب تركيز الأنظار على الداخل العراقي.

ليس فقط لأنّ محاولة اغتيال رئيس وزراء العراق كانت الحدث، إنّما لأنّ تبدّلاً مهمّاً حدث في المزاج العراقيّ العامّ، وتظهّر بشكل واضح في الانتخابات النيابية الأخيرة، ولأنّ الأصوات الرافضة للنفوذ الإيراني تعلو أكثر فأكثر.

فهل يُترجَم هذا التبدّل بجبهة سياسية متماسكة تشكّل حكومة قويّة تُكمل ما بدأه الكاظمي لناحية “استعادة هيبة الدولة” عبر تقوية مؤسّساتها وقواها الأمنيّة والعسكرية ومحاربة الفساد؟

ليس للعراقيّين خيار آخر، وإلّا يكن الكاظمي قد نجا من الاغتيال، لكن لم تنجُ منه الدولة العراقية.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع “بيروت نيوز” بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و”الموقع” غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.