لم يشأ “حزب الله” المداورة في هجومه وموقفه الهجومي حيال دول الخليج والمملكة العربية السعودية والأزمة القائمة بين هذه الدول ولبنان، تحت ستار حديث الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله الخميس الماضي عن أن “لا أريد أن أصعّد، ولا أعقد الأمور ونحن نحب أن ترتاح الأمور وتهدأ”.
قد يكون قال تلك العبارة عن التهدئة لتكون حجة للمفاوض الإيراني في محادثات الجولة الخامسة من الاجتماعات الحوارية مع السعودية في بغداد، والتي أعلن وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود عن أنها ستحصل قريباً.
فهو يعرف لغة التخاطب الإيراني الدبلوماسي سواء بهدف المناورة أو من أجل التسوية، أو المراوغة، بإتقان.
وهو أعلن في الخطاب نفسه أنه قرأ محاضر الاجتماعات الأربعة السابقة بين الجانبين، في معرض نفيه أن تكون إيران تفاوض بالنيابة عن الحوثيين في اليمن أو عن “حزب الله” أو دعت الجانب السعودي إلى التحادث مع الحزب للتأثير على الحوثيين.
إضافة إلى هفوة قراءته للمحاضر التي تدل إلى انخراطه في المشروع الإيراني بكامله في اليمن وفي الحملة على السعودية، إلى درجة ائتمانه من دولة مثل إيران على أسرار تفاوضية مع دولة أخرى، وقع نصرالله في غلطة أخرى حين أسهب في سياق نفيه أن يكون الحزب موجوداً في اليمن ليقاتل مع الحوثيين، مثمناً استقلاليتهم وقدرتهم على تصنيع الصواريخ البعيدة المدى والمسيرات وعدم حاجتهم إلى السلاح الإيراني…بقوله “نحن نعرفهم على الأرض”.
إقرار نصرالله بأنه يخوض “معركة رأي عام” حيال الموقف الخليجي من لبنان لتساهل سلطاته وبعض قواه السياسية التي تخوضها إيران حيال جيرانها الخليجيين، هو اعتراف بأنه منخرط في مشروع طهران للتوسع الإقليمي وبحاجة هذا المشروع إلى الدعاية المتواصلة في مواجهة مقاومة دول الخليج، وجزء كبير من اللبنانيين لهذا المشروع الذي يشكل الحزب رأس الحربة فيه في المشرق العربي.
عدا عن أن دعاية الحزب تقتطع من كلام قرداحي قوله إن الحرب في اليمن “عبثية”، وتقفز فوق قوله إن السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة تمارسان عدواناً على اليمن وأن الحوثيين لا يعتدون، دخل قادة الحزب في سجال وتفنيد للمواقف الخليجية متجاهلين كل ما أعلنه المسؤولون في هذه الدول، بما فيها توقيف الكويت خلية تعمل على جمع الأموال للحزب، الأسبوع الفائت.
وهم ينطلقون من فهمهم العدائي للموقف الخليجي، فيتجنبون الخلفيات الجوهرية لغضب دول الخليج والسعودية، ومنها الوقائع اليومية للقصف المتواصل بالمسيرات التي تُتَهم طهران بتزويد الحوثيين بها، ويُتهم الحزب بأنه يرسل خبراءه من أجل تدريب “أنصار الله” عليها والمساهمة في إطلاقها وتحديد أهدافها.
وضعوا أنفسهم تارة في موقع “المظلومية” جراء الاتهامات الموجهة إليهم بالهيمنة على القرار السياسي في لبنان، وأخرى في موقع المنتصر على السعودية ودول الخليج في اليمن وفي غيرها.
ذهب نصرالله هذه المرة أبعد من الهجوم على مواقف المملكة من الأزمات الإقليمية حين اتهمها بالتلكؤ عن حماية الإسلام حين يتعرض الرسول للإهانة كما قال في بعض الدول الغربية.
كل ذلك من أجل القفز فوق وقائع التورط في اليم
تتنقل حجج الحزب المتناقضة، في “معركة الرأي العام”، بين حديث المظلومية وبين المفاخرة بالانتصارات وبالتبشير بهزيمة السعودية في مواجهة الحوثيين.
و”المظلومية” هي التعبير الذي يكثر نصرالله استخدامه عند اتساع رقعة الرأي العام الرافض لجر لبنان إلى معارك لا ناقة ولا جمل له فيها، تنعكس وبالاً على البلد، كي يتبرأ من تهمة توريط البلد والتسبب بردود الفعل التي تنتج أضرارا وخسائر لاقتصاده ومجتمعه.
في سياق “معركة الرأي العام” يقتضي الأمر تعظيم بعض العناوين وتقزيم أخرى أمام المواطن العادي. “تعظيم” الموقف من استقالة الوزير جورج قرداحي، ورفض الحزب هذه الاستقالة أو الإقالة، بحجة أنها فرض و”إملاءات” و”انتهاك للسيادة” وتوصيف امتناع قرداحي عن الاستجابة بأنها “وقفة عز وكرامة”، يهدف إلى “تقزيم” خلفية الموقف الخليجي والسعودي من وراء رمزية هذا التدبير، باعتباره الخطوة الأولى لفتح حوار حول أزمة دول الخليج مع لبنان، في شأن ما أعلنه المسؤولون الخليجيون عن أن الحزب يهيمن على السلطة في البلد ويملي على قادته الموقف من عدد من الدول، ويصادر قرارها لتجييره من أجل مصلحة إيرانية.
فوزير الخارجية السعودي بن فرحان تحدث عن حاجة لبنان إلى تغيير في “التكوين السياسي” للبلد، نظراً إلى تحكم الحزب بهذا التكوين.
وليس سراً أن دول الخليج تتطلع إلى حل جذري لقضية سلاح الحزب في لبنان، الذي يستخدم بغطاء من السلطة وقوى سياسية فيه منصة من أجل تعزيز قدرات إيران في الإقليم.
والحؤول دون استقالة قرداحي مع كل ما تعنيه من تصاعد التأزيم في العلاقة مع دول الخليج، هو استباق يؤدي إلى طرح قضية سلاح الحزب.
تسقط دعاية الحزب المضادة للتهم الموجهة إليه بالهيمنة والتدخل في اليمن الذي لا يقتنع الرأي العام اللبناني بنفي قادته لدوره القتالي في المعارك العسكرية الدائرة فيه، لمجرد أن يسترسل هؤلاء القادة في الحديث عن الانتصارات في مخاطبة جمهورهم الذي بات يتبرم كسائر اللبنانيين ولسان حاله السؤال الذي يطرحه المواطن العادي: “ما علاقتنا بحرب اليمن.
ولماذا يأخذنا الحزب إلى هناك، ويتسبب بعداء الدول الخليجية لنا، في خضم أزمتنا الاقتصادية المالية التي نحتاج لمساعدة دول الخليج من أجل الخروج منها”؟
فحديث “الانتصارات” التي يحتاج الحزب إلى استقطاب جمهوره به، لاستنفاره وإيهامه أنه لا يُقهر، لا يلبث أن يكشف هشاشة ادعاء المظلومية. قادة الحزب يتناولون معركة مدينة مأرب اليمنية منذ أشهر، كما لو أنها مارون الراس أو العديسة أو بنت جبيل في جنوب لبنان.
وهم يتصرفون على أنها أم المعارك، (وهي كذلك على المسرح اليمني) بالنسبة إلى موازين القوى في لبنان، لأنهم يقيسون قوتهم على المسرح اللبناني بقوة ما تحققه طهران في توسعها الإقليمي.
ومن كثرة الانغماس في معركة مأرب يقول رئيس كتلة نواب الحزب محمد رعد: “اشتروا أسلحة بـ150 مليار دولار لتعزيز الدفاعات بعد سقوط مأرب”.
أي أنه جزم بسقوط المدينة منذ الآن، وكرر ما سبق لوزير الإعلام جورج قرداحي أن قاله عن أن “الحرب في اليمن عبثية، هو لمصلحة السعودية، لأننا ننبهها بأنها لن تصل إلى أي نتيجة”.
أما القول بأن لبنان يستطيع أن يقف اليوم على رجليه حتى الآن ويرفض الإملاءات الخارجية والأميركية، فلا يقنع “الرأي العام” لأن البلد “مكرسح” ومحطم كما لم يحصل ذلك من قبل.