لا تملي المصلحة الوطنية العليا على حزب إيران عندنا قرارته ولا خطواته ولا أداءه، بل الأصح هو أنه لا يضع ذلك المعطى في حساباته أصلاً، ولا أخال أنه يعرف معناه التام، أو يريد أن يعرف ذلك المعنى، طالما أنه يملك في ذاته مؤونة كافية له ولغيره .
المصلحة الوطنية العليا والصغرى هي من حيث المبدأ بوصلة كل متنطّح للشأن العام، وكل عامل في السياسة ومشتقاتها، وكل ساعٍ في سياق جماعي أكبر من الذات ومتطلباتها وهمومها وشروط الوصول إليها وحفظها.
ثم أنها أرفع مستوى وأرقى مرتبة من النوازع الأنانية والذاتية والمقفلة على النواحي الخاصة، باعتبار أنّ العاملين في الشأن العام يعرفون حكماً ومنطقاً، أنّ اللغو بالمشتركات والعناوين الشاملة هو لغو مربح في كل حالاته! ولا يهم في ذلك إن كان صاحب اللغو صادقاً أو كاذباً أو منافقاً أو انتهازياً لا تهمه سوى مصالحه الخاصة ومستعد لأي ارتكاب من أجلها، فكيف الحال إذا كان الارتكاب يقارب الشعر؟ ومكارم الأخلاق وفضائل القول والسعي الأكيد إلى إعلاء مصلحة الدولة وتأكيد رفعة الكيان وإيثار المصلحة الوطنية العليا على أي شيء آخر؟!
تجارة مربحة لمن يعمل في السياسة من دون أخلاق ولا ضوابط! ولمن يذهب في سعيه الأناني المريض والقميء إلى سرقة المشاع الأخلاقي والقيمي العام من أجل تمكينه من الوصول وسرقة المال العام والسلطة العامة والحق العام وكل عام ممكن!
وحزب إيران في ذلك متقدّم على العاديين من هؤلاء الوصوليين واللصوص وأهل النفاق… هو لا يدخل في تفاصيل السعي ولا يعتمد خطاباً موارباً ولا يجد حاجة إلى التعب في اقناع غيره بما يريده ويفعله ويؤمن به، بل لا يجد أي حاجة ليبذل أي جهد تبليغي وتعبوي مع جمهوره لشحذ همته واستنفار عصبيته وسنّ أسنانه إزاء قضية اسمها “المصلحة الوطنية العليا”! الأمر ليس من مألوفات الخطاب ولا من عدّة الشغل ولا من دروس الفقه ولا من شعارات المرحلة ولا المستقبل، مثلما لم تكن من الماضي.
ولا ترد في بيانات التثقيف التنظيمي والسياسي والمذهبي، ولا في أدبيات الإعلام والتبليغ ولا في العلن ولا في السر ولا في المكتب الحزبي ولا في الدوائر والقطاعات المختلطة في المدار القريب أو البعيد .
غربة المصطلح تدل على غربة الأداء وصلابة المعتقد الخاص، مثلما تدل على أنّ المشروع الحزبي المحلي ليس في صدد المحلية وضروبها، فقط بل هو جزء من شأن خارجي أكبر وأوسع في الجغرافيا والحدود والفقه والثقافة والسياسة والأهداف المثلى.
وهذا الجزء يُبنى ويُدرّب ويعطى ما يكفي من جرعات ذاتية مادية وغيبيّة ليتصرف عن قناعة تامة وحديدية وفق ذلك السياق ومندرجاته وتبليغاته. وفي ذلك، لا يلحظ أي شأن وطني مقفل إذا لم يركن في خانة الالتزام العابر فوق الحدود والسدود! فالمصلحة المذهبية العليا أهم وأولى من نظيرتها وضرّتها الوطنية المدّعاة! وأوجب من دون شك لتقديم الفداء والدماء لها! ولا تجوز المقارنة والمقارعة بين الأمرين والشأنين، ولا وضعهما في ذلك الموضع والميزان أصلاً وفرعاً وأساساً وهامشاً، خصوصاً إذا كان وعد السماء منسلاً من السماء والأدلجة ربانية… والسعي للرضى عنوانه الاصطفاء المستحق في عوالم الآخرة… والسعي في الأرض هو لتمكين ذلك الاصطفاء وتيسير مساره وتقريب مسافته وتحضير عدّته! وفي هذا الوعاء المرصوص والمدكوك، لا مكان ولا اعتبار لأي شأن أو كادر ضيق وأرضي ومحدود ومغلق ومحكوم بأطر وقياسات ونظم وضعها بشر أولاً، وأغيار ثانياً، وجلّهم في الخلاصة يمكن تصنيفهم في خانة العداوة وبكل ضمير مرتاح ثالثاً.
المصلحة الوطنية العليا مصطلح ترف عابر يمكن اللغو به في حدود ضيقة واستخدامات موضعية وفي سياق المحاججة السطحية مع الآخرين المختلفين والمخالفين والقاصرين عن استيعاب الرسالة الأخيرة والأهداف المثلى والذين لا يستحقون في كل حال تعب التبرير والتعبئة، طالما أنهم في المقلب الآخر ولادة وانتماء ومذهباً وعقيدة وطائفة وسياسة! وطالما أنّ هؤلاء في الإجمال لا يقدّمون ولا يؤخّرون في الأقدار المرسومة، ولو بمقياس إنش واحد .
في هذه المنظومة التي نعيش مع حزبها وعنوانها في الجغرافيا والزمان، تصير المشتركات عناوين متفرّقة لانقسام واحد: المصلحة الوطنية هي مصلحة حزبية.
والهوية المشتركة لا تعلو على الهوية المذهبية ولا تلغيها. والكيان السيادي لا يحد من حرية القفز فوقه وكسر حواجزه. ودستوره لا يسري مسرى البيان التنظيمي الخاص.
وقوانينه لا تحكم أو تتحكم بالأداء التوجيهي المقاوم. ومؤسساته لا تلعب الدور المنوط بالآطر والمراتب المدرجة في الحزب ونظامه الداخلي. والدولة في مبتدئها وخبرها لا تقيد البنيان الخاص الشبيه بها أو البديل عنها أو المنافس لها… وفي هذا كله، لا تكون اللغة الواحدة سوى عنوان شكلي لتغطية لهجة خاصة جداً تعتبر أنّ ما يُسمّى المصلحة الوطنية العليا ليس سوى نكتة لا تستدرّ سوى ابتسامة صفراء.