لم يكن غريباً أو مفاجئاً، توجيه الاتهامات مباشرة إلى ميليشيا إيران، وفي مقدمهم ما يسمى “حزب الله” العراقي، في محاولة اغتيال مصطفى الكاظمي، ليس فقط لأنه حمل مشروع لاستعادة دور الدولة العراقية في مواجهة تلك القوى التي استباحتها واستباحت حيوات العراقيين وحقوقهم، وإنما أساساً لأن هذا العمل هو نهج أصيل عند هذه الميليشيا، نال الناشطون والصحفيون العراقيون حصة كبيرة منه، وكان للبنان حصته الوفيرة أيضاً، عبر اغتيال العديد من الرموز السياسية والثقافية والصحفية، بدءاً من حسين مروة ومهدي عامل، مروراً برفيق الحريري وجبران تويني وسمير قصير والسلسلة تطول، وربما ليس انتهاءً بلقمان سليم.
خلال العقود المنصرمة تعددت أهداف الاغتيالات السياسية التي قام بها حلف الممانعة وتنوعت، وكان من بين الذين طالتهم، مسؤولون حكوميون ورجال دين ومفكرون وقادة أحزاب، مثلما اختلفت أدواتها من السيارات المفخخة، إلى عمليات التلغيم، إلى إطلاق النار بمسدسات كاتمة للصوت، وآخرها الطائرات المسيرة، لكن نادراً ما كشف عن القتلة الحقيقيين، وغالباً ما جرى تحميل إسرائيل المسؤولية، على الرغم من أن غالبية هذه الاغتيالات لم تكن عشوائية بل عمليات مدروسة سعت للنيل من شخصيات ذات مواقف محددة وتمتلك قدرة على الفعل والتأثير ولا سيما في المجالين السياسي والشعبي، بما يعنيه ذلك من رهان على أن النيل من هذا الرمز أو ذاك، وعلى ملاحقة هؤلاء الخصوم السياسيين وتصفيتهم أو إسكاتهم، يمكن أن يحدث تبدلات في الرأي العام وفي الاصطفافات لصالح الطرف الذي يقوم بالاغتيال، فالذين مارسوا هذا النمط من القتل أرادوا إضافة إلى التخلص من أحد خصومهم وإزاحته عن المشهد السياسي توجيه أكثر من رسالة وأولها إظهار أن يد الإجرام هي اليد الطولى، ويمكن أن تصل إلى أي كان، ما يشيع جواً من الرعب والخوف، يساعد في تفكيك صفوف الناس ودفعهم الى السلبية أو الاستسلامَ!
إن ردود الأفعال السياسية والشعبية والتداعيات الناجمة عن اغتيال شخصية ما، لا تندرج في سياق الحسابات البسيطة، مهما بلغت عملية الاغتيال من إتقان، والقصد أن عمليات الاغتيال إن نجحت في التصفية الجسدية لرمز حزبي او ثقافي وإشاعة أجواء الرعب والخوف، فإن أهدافها السياسية تبقى، في النهاية، عصية عن التحقق، حيث بينت التجربة في غير مرة، إن مثل هذا الخيار البربري قد عاد بالضرر على من يعتقدون سياسياً أنهم المستفيدون منه، وانعكس بنتائج على الضد مما استهدفوه، وبدا أنه قد زاد من عزم المؤيدين والمناصرين للضحية ومشروعها وتالياً من إصرار وتصميم أوساط الرأي العام على مواقفها ورفضها لهذا الشكل من التصفيات السياسية.
صحيح إن المستفيد الأول من الاغتيال، هم أعداء الحرية، ومدمنو الإلغاء والإقصاء، ليس فقط لأن إصدار قرار إعدام من دون اتهام دامغ يليه محاكمة عادلة يعادي أبسط حقوق الإنسان، وإنما لأن هذا النوع من التصفيات السياسية يكثر بالفعل ويزداد طرداً مع ضعف الديمقراطية أو غيابها وانسداد أفقها، ولأن أكثر من يمارسه هي القوى المستبدة التي تغولت عميقاً في تسلطها وفسادها، وتلك التي أصابها العمى الإيديولوجي وباتت تحبذ العنف وتمجده، وتجد تحت عنوان امتلاكها للحقيقة أن من يخالفها الرأي لا يستحق العيش والحياة.
لكن الصحيح أيضاً أنه من الخطأ إخراج المحرضين من دائرة المسؤولية، فنجاح عملية الاغتيال السياسي لا تتوقف فقط على اجتماع إرادة القتل وشروط التحضير، وإنما على الأجواء الكفيلة بتمرير هذه التصفيات السياسية بأقل ردود أفعال تذكر، ونقصد الخطاب التحريضي التعبوي، فليست اتهامات التخوين والتكفير إلا المقدمة للإرهاب الجسدي والمادي، وفي هذه الحال يمكنك أن تفهم السبب الذي يدفع أصولياً أعمى لقتل شخص يقول عنه الزعماء المتطرفون بأنه كافر وخارج عن الملة، ولماذا لا يرف جفن لذاك الذي تأسره التعبئة الوطنية وهو يقتل من يتهمه البعض بالخيانة والعمالة لأميركا والصهيونية!!
وإذ تتقصد وظيفته الاغتيال، اختصار الصراع والخلافات بإنزال حكم الموت على من أضحى وجوده عقبة أمام سياسات معينة، وإذ تعني ظواهر العنف والقتل ازدراء السياسة وحطها والاستهانة بدور السلطة العمومية والدولة ومؤسساتها، لكنها، هي من جهة، تعبير عن عجز الطرف الذي لجأ إليها عن تمرير مصالحه سلمياً وبالحسنى أو بإقناع الآخرين بما يملك من وجهة نظر، وعجزه تالياً عن كسب ثقة الناس بصدقية مواقفه وسلوكه، وهي، من جهة ثانية، تعبير عن نزعة إجرامية متأصلة لا قيمة عندها لحياة الإنسان، وهمها الرئيس إطلاق مشاعر الثأر والروح العدائية والمزيد من النعرات والانقسامات، في مواجهة ما تقتضيه مصلحة الوطن العليا، التي يدعي الجميع حمل لواءها، وجوهرها الحرص على الإنسان كقيمة أساسية والعمل بجدية على تجنب القتل وتأجيج نار الفتنة التي تودي بالاجتماع الوطني الى التهلكة، وليس صدفة أن يجمع كل ذوي الذين فجعوا بهذه الارتكابات أو طالتهم، وآخرهم مصطفى الكاظمي، على روح عالية من المسؤولية الوطنية عبر عبارات تدعو إلى رفض الفتنة والثأر، وتشدد على التمسك بالخيار السلمي والقانوني في مواجهة كل الأصوات التي تفتنها روح الفتك والقتل.
إن أهم ما يجب اتخاذه ضد الاغتيال ولغة القتل ليس فقط استنكار الجريمة وعدم السماح للمرتكبين الإفلات من العقاب بمحاسبتهم عن ارتكاباتهم قضائياً وسياسياً، وإنما أيضاً إعلان موقف مبدئي حاسم ضد هذه الطريقة من إدارة الصراع السياسي وبداية ضد كل محاولات الإقصاء والشحن والاستفزاز والتعبئة الأيديولوجية البغيضة، بما في ذلك نشر ثقافة تقول دون تهاون أن الأعلى والأنبل في دنيانا هو الكائن الإنساني، الماثل من جسد وعقل وروح، بغض النظر عن جنسه وانتمائه ومعتقده ودينه وهويته!