استقالة أكبر من صاحبها

4 ديسمبر 2021
استقالة أكبر من صاحبها
علي نون
علي نون

حتى في لحظة استقالته، كان وزير بشار الأسد في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي يداعب نرجسيته علناً أمام الناس ويقول قولاً ما تجرأ عليها أولياء وقديسون: “لم أخطئ. واتخذت القرار الصح في التوقيت الصح!”، وهذا لعمري وضميري مثال آخر عن مدى ضحالة الشخص ومستوى تشبّعه بالأنا، ثم عن طبيعة “الثقافة” السياسية التي يعتنقها.

ولو لم يقل هذا وذاك، لأصاب كثيرين بالتعجّب! باعتبار أنه “يعتقد” ولا يزال “يعتقد” أنّ بشار الأسد مثلاً لا يتحمّل أي مسؤولية في ملحمة الخراب السوري! ولم يخطئ في شيء! وأن ملايين السوريين الذين راحوا بين منفيين: إلى دار البقاء من دار الفناء أو إلى المهاجر القريبة والبعيدة من وطنهم وأرزاقهم وبيوتهم، هم الذين جلبوا على أنفسهم مسار النكبات والكوارث عندما خرجوا ليطالبوا بشيء من الحرية والكرامة والثروة الوطنية… ومن يفعل ذلك مع “معصوم” مثل بشار الأسد يكون هو الجلاد وليس الضحية!

وكذا الحال إزاء سياسات الحزب الإيراني في لبنان… بحيث أنّ مسيو قرداحي “يعتقد” أنّ ضحاياه الكثر هم الذين جنوا على أنفسهم عندما عارضوا سلوكه العام الذي عنى ويعني تحميل لبنان واللبنانيين تبعات طموح إيران وجموح مشروعها الامبراطوري المدّعى، وايصال الكارثة إلى أبواب الجميع: الدولة والناس على السواء، ثم الذهاب إلى محاولة التبرؤ من ذلك كله باعتبار أنه حزب إلهي ولا يخطئ أيضاً!

وقبل هذا، كانت زبدة تفكيره تنحى باتجاه تحميل اليمنيين عموماً مسؤولية عدم انصياعهم للانقلاب الحوثي عليهم وعلى الدولة والشرعية، والغدر بالسلطة ورموزها وبكل من شارك في إنضاج مخرجات الحوار المديد الذي استمر من نيسان (أبريل) عام ٢٠١٣ إلى مطلع عام ٢٠١٤ ورعته المملكة العربية السعودية والأمم المتحدة، بحثاً عن تجنيب اليمن وأهله كوارث ونكبات كبيرة… “السيد الوزير” قرداحي كان “يعتقد” ولا يزال، (طالما أنه لم ولا يخطئ!) أن ذلك الانقلاب الحوثي الذي جرى برعاية إيرانية تامة وخالصة، والذي أراد ويريد تحويل اليمن كله بداية ثم شماله لاحقاً إلى منصة لصاحب الشأن الإيراني وبأجندة عدائية مفتوحة ومعلنة ضد الجوار الخليجي العربي عموماً والسعودي خصوصاً، لم يكن الشرارة التي فجّرت الحرب! إنما “العبث” السعودي الذي باشر “العدوان” على اليمنيين من دون سبب أو وجه حق! وبهذا لم يختلف مسار الصح والغلط في ذهن قرداحي أفندي: المحور الإيراني وأربابه ورموزه والناطقون بلسانه من طهران إلى ضاحية بيروت الجنوبية لا يخطئون ولا يعبثون، بل من يتصدى لهم ويدافع عن نفسه وأرضه واستقراره هو الذي يرتكب الغلط ويشطح بعيداً! وهو الذي يتحمّل تبعات المآزق والخسائر الكبيرة وليس غيره! ولذا يصير توصيف الحرب بأنها “عبثية” تحصيلاً منطقياً! وهو عينه التحصيل المنسحب على عموم السوريين، ضحايا الأسد. وعموم اللبنانيين، ضحايا حزبإيران والتزاماته وارتباطاته بصاحب الشأن في طهران! وهو عينه الذي يمكن إسباغه على كل يعاند المشروع الإيراني في المنطقة وبين شعوبها العربية والإسلامية!

في ذلك المسار محطات كلامية كثيرة من “الوزن الثقيل” عينه… مثل اعتبار المرشد الإيراني والزعيم الروسي وبشار الأسد مثالات وأيقونات وشخصيات لا تتكرر! ثم التدرج في إطلاق الدرر المشابهة إلى لحظة وصوله إلى بيروت بعد تعيينه وزيراً أسدياً خالصاً في حكومة لبنان وإلقائه محاضرة سريعة في المسموح والممنوع وفي هوية من يحكي ومن يصمت! مرورا باللغو عن ضرورة وضع تشريعات تحفظ “كرامة” المسؤولين اللبنانيين في بلد استبيحت فيه كرامة كل اللبنانيين تحت وطأة انهيار عملتهم الوطنية وضمور مستويات عيشهم وتراجع الخدمات الأساسية لهم وانكسار دولتهم وتحول بلدهم في جملته إلى شبه كرنتينا مغلقة لا يقترب منها أحد! وصولاً إلى مسك الختام عندما أعلن استقالته على الرغم من أنه “لم يرتكب أي غلط”!

جورج قرداحي حالة صريحة وسريعة، تعبّر بسطحية وبشيء من تفاهة اللغة عن حقيقة عميقة وجدّية: مواجهة المشروع الإيراني في المنطقة العربية والإسلامية وملحقاته الأسدية تعني في عُرف أرباب ذلك المشروع وروّاده، مواجهة عبثية لا طائل منها، باعتبار أنّ الأمر محسوم سلفاً، ولا يخضع للقياسات البشرية العادية والطبيعية وهذا يعني أنّ تلك المواجهة هي مع أنصاف آلهة وليست مع أناس عاديين يخطئون ويصيبون! وأن من يرتكب تلك المعصية الطنانّة الرنّانة إنّما يجني على نفسه ويعبث بالأقدار! والواضح أمام الملأ أنّ ذلك تُرجِمَ على الأرض، وعلى الحامي وليس البارد من اليمنإلى العراق فسوريا وشيء من لبنان وبأثمان بشرية ومادية مهولة وبخراب بزّ خراب البصرة وجعل منها مثالاً لا يُعتدّ به!

ثم بعد ذلك، يصحّ الظن والافتراض أنّ استقالة قرداحي لم تكن ملكه أصلاً ولا من عندياته، إنما من عند أولياء أمره في حزب ايران وتدخل في حساباتهم وقراءاتهم وليس في حساباته ولا في حسابات أحد غيره في المستويات السياسية الرسمية في بيروت… وهي من حيث المبدأ وقبل التحليل، تصحيح لخطأ ارتكب في حق السعودية والشعب اليمني وفي حق اللبنانيين بعد ذلك… ويمكن وضعها في سياق محاولة فتح جزئي لأبواب مغلقة وبداية ممكنة للوصول إلى مكان آخر غير الذي وضعته فيه سياسات الكيد والمكابرة والصلف المعتمدة من ذلك الحزب والجماعة الإيرانية في بيروت. بداية لا تعني الشيء الكثير والكبير، ولا تغييرا حرزاناً في السياسات المتبعة، لكنها خطوة لا بد منها طالما أنّ الأزمة المفتوحة مع دول الخليج العربي والمملكة تحديداً أكبر من قرداحي وغيره، ولا تتعلق بأشخاص بل بسياسات عامة خرّبت لبنان بقدر تخريبها لعلاقاته مع أشقائه وأصدقائه في هذا العالم… وهذه حساباتها مختلفة لكنها لا تغير حقيقة المصيبة الكبيرة التي أصابت لبنان وأهله بفعل سياسات طهران وحزبها.