سواء كان التباين القائم بين حزب الله والتيار الوطني الحر مسرحية مركبة، او مفترق طرق، فانه في الحالتين لن يستنهض المجتمع المسيحي عشية الانتخابات النيابية لمصلحة الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل…
والسبب الظاهر، ان الجنرال اتّبع هذه الاستراتيجية من قبل، لحشد المسيحيين خلفه بعد عودته من فرنسا، قبل ان يكشف الستارة عن خفايا المناورة البرتقالية، ويعقد مع حزب الله تفاهما هو اقرب الى تحالف قائم على معادلة واحدة لا ثانية لها: الرئاسة بأي ثمن مقابل السلاح لأي هدف…
وقد انطلق الفريقان، ولا يزالان، من حقيقة لا جدل في شأنها، وهي ان حزب الله الذي كان محشورا في الزاوية الصعبة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لم يكن قادرا على الخروج من عزلته والتمدد سياسيا وجغرافيا وديموغرافيا وأمنيا واقليميا من دون غطاء محلي وفّره له التيار الوطني الحر سواء طوعا او قسرا، وان الرئيس عون لم يكن من جهته قادرا على حماية نفسه اولا وتلبية طموحاته الرئاسية ثانيا، من دون سلاح “المقاومة الاسلامية”، خلافا لأخصامه، وفي مقدمهم سمير جعجع، غير القادرين على النهوض شعبيا من غير الصدام مع حزب الله…
ولم يكن عون قادرا بعد الرئاسة، على ضمان غالبيات مريحة في مجلسي النواب والوزراء وفي الادارات الحساسة على انواعها، من دون ضوء اخضر من السيد حسن نصرالله الذي تحول لاحقا، ليس الى رئيس الظل، بل الى رئيس الضوء من دون اي اعتراض او منافسة من الرئاسة الاولى التي بدت وكأنها اكتفت باللقب وتركت امور البلاد الاستراتيجية لساكن الضاحية الجنوبية، والمحلية لساكن الكواليس في القصر الجمهوري اي جبران باسيل…
وما بدا في البدايات وكأنه شهر عسل ومصالح وخدمات متبادلة مع حزب الله، و”حزام امان” يوفره حزب الله للمسيحيين، سرعان ما سقط على تخوم عين الرمانة وعيون السيمان وساحتي الشهداء ورياض الصلح وصولا الى لاسا وسبحة من الاغتيالات والتصفيات المشبوهة، وبات في حسابات عون وباسيل، عبئا ثقيلا لا يمكن تسويقه داخل المجتمع المسيحي عشية انتخابات نيابية مفصلية، وتحول الرجلان على المقلب الآخر، واحدٌ الى رئيس مستضعف وآخر الى طامح متهور لا يمكن تعويمهما، حتى داخل المجتمع الشيعي الذي رأى فيهما حليفا ارتكب من الحماقات والكيديات ما لا يمكن تبريره في السياسة ولا تغطيته بغير السلاح.
وتكشف مصادر معارضة في التيار، ان حزب الله اعتبر عهد ميشال عون، عهد ايران في لبنان وتأشيرة مفتوحة تسمح له بانتهاج أي استراتيجية محلية او اقليمية او مالية او اقتصادية او امنية من دون اي اعتراض او تصويب، معتبرة ان حسن نصرالله تقصّد القفز فوق الرئيس اللبناني في الكثير من القرارات، وحوله الى بابراك كارميل جديد او على الأقل الى “خيبة” متراكمة في صفوف انصاره الذين كانوا يرون فيه “الرئيس القوي” الذي طال انتظاره…
وتضيف المصادر ان “فائض القوة” لدى حزب الله، حوله الى حيثية فوقية في مكان ومستقلة تماما في مكان آخر عن اي محاسبة او مساءلة او شراكة، وجعل منه الواجهة التي ينظر اليها العالمان الغربي والعربي على انها السلطة التي يجب محاربتها او مسايرتها كلما ارادت الدخول الى أي ملف محلي او البحث في اي ملف اقليمي…
لكن حزب الله ينظر من جهته الى الامر من زاوية اخرى، مشيرا الى ان الفراغ الذي تميز به عهد ميشال عون هو الذي دفعه الى ملء الكثير من الشواغر، وان تلهّي التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل بالسعي الى التوسع والانفلاش والاثراء والالغاء، حشر “المقاومة الاسلامية” في الكثير من الزوايا الصعبة، وحولها الى قوة قمع في الشوارع، وقوة دفع في المؤسسات وحاكم بأمره في كل مكان…
وتقول المصادر عينها، ان عون، بدأ منذ اللحظة الاولى الاعداد لمرحلة الخلافة، متجاهلا اي أمر آخر، وتعامل مع السلطة وكأنها نظام ملكي لا برلماني، وان باسيل تعامل مع “اتفاق مار مخايل” وكأنه ممحاة تلغي كل الآخرين من دون استثناء وتحديدا كل الذين يعترضون او يعرقلون طموحاته الرئاسية حتى لو كان في طليعتهم الرئيس نبيه بري نفسه، الركن الثاني في البيئة الشيعية، والرجل الذي ساهم مع حزب الله في احباط “ثورة السابع عشر من تشرين” ومنع العهد من السقوط…
وتضيف المصادر ان حزب الله تغاضى عن الكثير من هفوات باسيل على مدى السنوات الخمس الماضية، وهي هفوات خطيرة كادت تنسف “اتفاق مار مخايل” في مرات كثيرة، مشيرة الى ان الرجل لم يحدد مكانه النهائي بعد، فهو يريد أحيانا ان يكون نائبا ثم وزيرا ثم مرجعا مسيحيا ثم مرجعا لبنانيا، ثم حيثية عربية ودولية ثم رئيسا اوحد، تماما كما كانت الحال مع الجنرال ميشال عون قبل وصوله الى قصر بعبدا في السنوات الثلاثين الماضية…
ويسود اعتقاد في البيئة الشيعية، ان حزب الله القلق مما يجري على الجبهة الايرانية – الاميركية – الاسرائيلية، يجد نفسه قلقا على الجبهة الداخلية اللبنانية، وتحديدا حيال الوضع الهشّ الذي يعانيه التيار الوطني الحر، مشيرا الى ان حسن نصر الله يعمل على ثلاث جبهات دفعة واحدة، بعدما وجد نفسه مضطرا للحفاظ على مقعد باسيل في البرلمان، وعلى حظوظه الرئاسية، وعلى التمسك بالغطاء المسيحي المتوافر حاليا بكل شوائبه وأثقاله، ليس حبّا به بل لاستمرار حاجته الى غالبية مريحة في البرلمان المقبل والحكومات العتيدة…
لكن التيار الوطني الحر ينظر الى الامر من زاوية مختلفة، مشيرا الى ان حزب الله اعطى عون الرئاسة وأخذ كل شيء في المقابل، وساهم في تهميش العهد وعرقلة او عدم تسهيل الكثير من الانجازات والاصلاحات، وتعمد الظهور بمظهر الآمر الناهي ضاربا عرض الحائط بمصالح لبنان وعلاقاته الخارجية ومرافقه الحيوية، وتحويل الضاحية الجنوبية الى العاصمة غير المعلنة لـ”جمهورية لبنان الاسلامية”…
وبعيدا مما يقوله حزب الله وما يقوله التيار الوطتي الحر، سواء كان من باب الجدية او المناورة، فان اللبنانيين يعرفون ان في الكثير مما قالاه علنا او ضمنا، مجموعة من الحقائق والوقائع التي نقلت لبنان من دولة مكتفية الى حد ما الى دولة فاشلة ومعزولة وحتى منبوذة، وان ما كان “مقاومة” جدية في بعض الوجدان المسيحي تحول الى انقلاب تدريجي، وان ما كان “تغييرا واصلاحا ” في الأداء تحول الى مجرد تغيير في الاسماء والوجوه.
لكن الحقيقة الاكثر سطوعا والتي يتجاهلها حزب الله هي انه انتقل من ركن يكرّمه البعض كي يحصل على شهادة في حسن السلوك تصل به الى القمة، الى عبء يتنصل منه كي يحصل على براءة ذمة وطنية تخرجه من الهاوية.
والحقيقة الساطعة الاخرى التي يتجاهلها عون وباسيل، هي ان لعبة “الابن الشاطر” لم تعد تنطلي على أحد، وان سياسة الاستغباء لم تعد تجدي، وان الزحف نحو بكركي بعد عامين من “قطيعة الميلاد”، لن ينقذ تيارا يلجأ الى حضن البطريرك بشارة الراعي في زمن الافلاس ويلجأ الى حضن حسن نصرالله في زمن الاستقواء.