نتساءل أين الخطأ وأين الصواب في حشد بلا هدف واضح، حيث أجساد تتلاصق لتميل حيث يميل حشدها.
والحشد ليس مجرد جماعات متلاصقة من البشر، إنه كائن خرافي يلخّص الجماعات ولا يشبهها.
قد يتألف الحشد من أصدقاء أو رفاق أو مجتمعين على فكرة، لكنه حين يتلاحمون يتكوّن بشكل مستقل عنهم، وقد يميل إلى الانتحار فلا يستيقظون من لحمته إلا وهم يهوون من القمة إلى القاع: لحظة وعي ما قبل الغياب. إنها لحظة فردية، لأن الإنسان يموت وحيداً مهما قيل عن عمومية أفكاره.
لا خطأ ولا صواب في الحشد. هو كائن بلا عقل يختصر بشرا عاقلين. وهو الاجتماع في لحظته القصوى. القبس الأخير للعقل قبل الإنطفاء.
لا نقيم حدوداً لفرديتنا فنتركها تدمّر المجتمع، ولا نقيم حدوداً لاجتماعنا فنتركه يمحو الفرد أو يختصره بكائن خرافي هو الحشد.
ونستدرك لنقول: لبنان ليس حشداً على الرغم من جوعه وآلامه وغزاته.
ونبدو كمن يكرّر نفسه حين نقول إن مشغّلي الحروب لا يرفعون شعارات الخبز أو الإنتاج، إنما يريدونها “حروب وجود” تستهدف وجود الآخرين، فلا وجود إلاّ واحداً في شرق ثقافات تعتبر الأغيار دنساً أو كائنات دنيا مرشحة للمحو. ننسب هذا الوصف لثقافة غلاة الصهاينة فيما نعتمده، أي نترجمه، إلى لغتنا ونبحث عما يسنده في تراثنا القابل حمولات كثيرة.
وثقافة “الوجود” في تجلياتها الحالية هي “نوع” أكثر مما هي “هوية”، فلا تفاعل بل حتى لا صراع ثقافياً. إنها حروب الأنواع من أجل انتصار نوع واحد.
وكم يبدو غريباً هذا الدافع الثقافي، أو دافع سيادة النوع (القبلي أو الديني أو المذهبي) حين يتخلّق في صورة محارب أبكم لا يرعوي.
يحدث هذا في بلادنا العربية التي تدهش العالم وتحيّره وترعبه، فيعلن حال طوارئ شبه دائمة لإغاثة جياع ومشردين ولإيواء لاجئين.
إنها حروبنا اللانهائية يربطها خيط سلالات الأفكار الجامدة يلتصق بها البشر حتى نهاياتهم التعيسة. خيوط مسمومة لا تبلى، وتحتفظ بحيوية قادرة على إهلاك أجيال.
ومما جاء في رسالة صديق:
لم تخطئ حين فضلت الرؤية من بعيد، وتركتنا نكرر الخطأ مرة كل عشر سنوات، كل خمس، كل سنة واحدة. من بعيد تشاهد الفيلم عينه مرات متعددة لكنك خارج الشاشة. تستطيع من مقعدك أن تتلهى بقراءة ما في موبايلك أو بالحديث مع زائر أو بإغماض العينين والتأمّل.
نحن داخل الشاشة، ربما رأيتنا ورثيت لحالنا. نمارس مع الجموع فعل التكرار لكن وعينا يشقينا.
الحدث اللبناني يتكرر تصويره وعرضه، تماما مثل فيلم. وإذا تطلّب المشهد جريمة فإن القاتل والقتيل ينهضان بعد التصوير ويتصافحان في الطريق إلى مقهى الرصيف.
“لبنان لعبة شعبه. شعبه اللعبة”
كتبت هذه الجملة من قبل وأكرر إرسالها إليك، وأرجو أن تطمئن. نحن في الوطن لا نخشى موتا. لا نخشى حرباً. نحن اللبنانيون ذوو الوعي الشقي يقتلنا الضجر ومشاعر الإحتقار لمن يقودوننا، ولأنفسنا مرارا وتكرارا.
وأسألك: ألم تضجر بدورك من الفيلم؟
يبدو أن لا حدود للعنة. إنها لطخة على أرواحنا الحائرة في الوطن والمهجر. وأخبرك يا صديقي إنني اشتريت قميصا ملونا، وأنتظر رأيك فيه عندما تراني في النسخة الجديدة من الفيلم. في دور الضحية لا في دور القاتل.
وعندنا عمليات يومية لتفريخ معممين يسيّسون الدين أو رجال سياسة يديّنونها، في ما يشبه مزجاً بين الجوهر والعرض. تتحول الوقائع التي تحمل الخطأ والصواب إلى ثوابت تضفي عليها القداسة، ويحتل أشخاص محدودون مقامات سامية. فنرى الناس العاديين أشبه بحشد أعمى، أو مثل سيل يجرف التراب والشجر وأفراد البشر بلا حساب.
ونلاحظ مزيدا من الدأب لتفكيك مجتمعات راسخة وقيم إنسانية كانت تمد جسورا مع الآخر، بهدف الوصول إلى عسكرة عمياء تؤلف قداستها الخاصة وتحجب المقدّس التاريخي الذي عرفه الإنسان وتبنّاه.
هذا هو جوهر المشروع، ولا نعرف إلى أين تمتد خيوطه، إلى دول أخرى أو إلى جماعات مغفلة، لكنه يبنى بدأب، بمزيد من الدأب حتى منتهى الخراب.
وفي الصباح الباكر رنّ الهاتف وطلب الصديق رأيي في الظاهرة العجائبية. أي ظاهرة؟ سألته. أجاب الصديق: ألم تستيقظ على الأصوات. كم أنت ثقيل النوم؟ ولم يكن مضطرا للشرح. كان التلفزيون يكرر بث الخبر مع الصور الليلية: أشجار الغابة بدّلت جذورها بدواليب، وتركت الجبال بسرعة 60 كيلومترا في الساعة متوجهة نحو البحر.
شاطئ لبنان مليء بالأشجار المنتحرة، مثل نهر في الأمازون يحمل ما قطع الحطابون.
أشجار لبنان لم يقطعها أحد: كيف تكون أشجار في وطن يأنس أهله إلى لغة جافة. الأفضل أن نكون سكان بلد بلا أشجار. بلد يشبه لغة أهله.
إنها الهرمونيا.