كشفت مسألة عدم ترشح زعيم “المستقبل” رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، أو ترشحه مع تياره السياسي للانتخابات النيابية، عمق المأزق الذي يتخبط به لبنان أكثر من كشفها للمأزق الذي يقع فيه الحريري نفسه الذي انتهى به إلى اختيار العزوف عن خوض المنازلة الانتخابية في أيار المقبل.
فهي منازلة يعلّق عليها فرقاء لبنانيون وعواصم معنية بأوضاع البلد الصغير أهمية قصوى لإحداث نقلة في أوضاعه التي بلغت درجة مأساوية.
كثر الحديث عن المفاعيل السلبية لخطوة الحريري على المسرح السياسي اللبناني، وعلى الفراغ الذي يتركه انكفاءه عن خوض تلك المنازلة التي لقيت صدى يتراوح بين الرفض والإحباط والتعاطي ببرودة من جهات متعددة المشارب والانتماءات.
وإذا بات واضحاً لرافضي خيار الحريري، أو للمحبطين من قراره الذي أصر عليه في لقاءاته سواء مع كتلة “المستقبل” النيابية أو رؤساء الحكومات السابقين وصولاً إلى بعض السفراء العرب والأجانب الذين توافدوا إلى بيت الوسط للاستفسار عن حقيقة التسريبات التي سبقت عودته إلى بيروت أو التي أعقبتها، أنها خطوة ستترك فراغاً له أضرار أبعد من التبريرات التي يسوقها الحريري نفسه، فإن رافضي خياره يعتبرون أنه لن يكون هناك فراغ لأن هناك من سيملأه حكماً.
فهذا قانون الطبيعة الذي لا رد له.
والانسحاب من المنازلة يترك الحلبة لتزاحم مروحة من الخصوم، و”حزب الله” منهم، وللمنافسين على المقاعد في البرلمان الذين يمكنهم تأمين الحاصل الانتخابي وفق قانون الانتخاب الحالي، كي يحلوا مكان الحريرية السياسية في لعب دور في المرحلة المقبلة من التاريخ اللبناني.
وليس معروفاً بعد إذا كان رموز انتفاضة 17 تشرين والمجموعات الطامحة إلى التغيير سيتمكنون من تشكيل أرضية تتيح لهم المساهمة في ملء هذا الفراغ.
حتى الذين يتعاطون ببرودة مع التوجه الذي يذهب إليه الحريري، ويكررون تعداد الأخطاء التي ارتكبها أو ينسبونها إليه، ولا سيما في “المخاطرة” التي اختارها بالتسوية الرئاسية متوهماً بقدرته على إنجاح الرهان على خلق مسافة بين الرئيس ميشال عون وبين “حزب الله” والمشروع الإيراني لإحكام القبضة على السلطة في البلد، ينتهون إلى التوجّس من الفراغ الذي يتركه انكفاءه عن الساحة في هذه الظروف، من دون أن يكون لديهم الأجوبة عن البدائل التي يمكن أن تحل مكانه وتساهم في حد أدنى من الممانعة الوطنية في وجه تحويل البلد إلى ساحة مقبوض عليها من الغلبة الإيرانية في إطار الصراع الإقليمي.
وإذا كان بعض هؤلاء يرون أن خروج الحريري من الساحة، وتراجع أسهمه لدى دول كبرى فاعلة في لبنان، هو الثمن الذي لا بد أن يدفعه جراء خطأ تلك المراهنات وسوء إدارته للعلاقة مع خصومه، فإنهم يقرون في الوقت عينه بأن المشروع الإيراني سيتمكن من ملء الفراغ الذي يشكون من أن الحريري لم يحسن مواجهته.
يقف هؤلاء عند ما حصل في الماضي وسط التباسات كثيرة حول توزيع المسؤوليات عن أخطائها التي يتشارك الحريري فيها مع آخرين.
ولعل هذه المفارقة تلخص عمق المأزق الذي يذهب إليه البلد، ومعه الطائفة السنية، لا وحدها.
إذ أن الضرر الذي سيلحق بها لا يقتصر على غياب واحد من رموزها الوازنين والأكثر شعبية، بل يتعداه إلى انكفاء “زميلين” لزعيم “المستقبل” في نادي رؤساء الحكومات السابقين، هما الرئيسان تمام سلام وفؤاد السنيورة، بالإضافة إلى رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، عن خوض الانتخابات النيابية المقبلة.
وهذا ما يدفع مراقبين إلى تشبيه انكفاء السنة الأربعة الكبار بالانكفاء المسيحي عن المشاركة في انتخابات 1992، الذي حصل بعده التراجع في قدرة اللبنانيين على الممانعة في مواجهة الهيمنة السورية حتى العام 2005 حين ذهب رفيق الحريري ضحية محاولة استعادة بعض التوازن في السلطة بخطوات عديدة منها السعي لاستعادة رموز المسيحيين دورهم فيها.
لكن الجديد في الانكفاء السني في العام 2022 أنه يأتي بعدما قطع مشروع إيران في المنطقة شوطاً في التقدم، جراء إشاحة دول كبرى نظرها عن ذلك، بفعل مصالحها السياسية، مما ساعد إيران على تكريس دورها الراجح في عدد من الدول، من اليمن إلى العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان، على الرغم من الصعوبات التي أخذت تواجهها في السنتين الماضيتين.
السنوات السبعة عشر الفاصلة عن حقبة النفوذ السوري مختلفة من حيث موازين القوى. فقد أضيف إلى الإمعان في تهميش دور المسيحيين في السلطة بعد تسليم الحقبة العونية الكامل للنفوذ الإيراني (على الرغم من المحاولة البائسة والمتأخرة للاستدراك المثير للشفقة من قبل رموز “التيار الوطني الحر”)، التدرج في استنزاف وإضعاف الدور السني في المعادلة اللبنانية بحيث بات رموز الطائفة يحجمون عن الاشتراك في الانتخابات، ولا يجدون فائدة من دورهم في السلطة سوى تغطية الإمساك بمفاتيحها من قبل طهران.
وخلافاً لقول مراقبين بأن انكفاء السنة الأربعة الكبار يضع الانتخابات في مهب الريح، نظراً إلى غياب “الميثاقية” التي يجري التحجج بها غبّ الطلب، فإن توقعات العارفين تشير إلى أن “حزب الله” وحلفاءه سيصرون على إجرائها في موعدها لأنها ستتيح له التعويض في بعض الدوائر عن خسائر حليفه المسيحي، بمقاعد سنية ومسيحية في دوائر عدة، وحيث يمكنه المساهمة في تأمين الحواصل الانتخابية.
إذا نجح ملء الفراغ الذي يتركه انكفاء السنة الأربعة، فإن تحذير البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي من تغيير هوية لبنان سيصبح أمراً واقعاً أكثر من أي وقت. ولذلك مفاعيل طويلة الأمد.