لم يعد خافياً على أحد أن “حزب الله” الذي رفع شعار “حرب تموز سياسية” على حملته الانتخابية، ضمّنها استراتيجة حربية مباشرة ضد رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط من خلال الترويج عبر مصادره بأنه يريد تقليص نفوذ جنبلاط السياسي بدءاً من “تشليحه” نصف المقاعد العائدة للموحدين الدروز في المجلس النيابي وكسر “احتكاره” لتمثيل الدروز في البرلمان.
لم تكن العلاقة التي تجمع الطرفين في الفترة الأخيرة وتحديداً منذ العام 2011 سمناً على عسل بالتأكيد، لكن جنبلاط الذي آثر عدم مواجهة “حزب الله” صوناً للسلم الأهلي ولعدم الانجرار إلى معارك داخلية يدفع ثمنها لبنان من أقصاه إلى أقصاه، انتهج مبدأ ربط النزاع مع الحزب أو ما اصطلح على تسميته “تنظيم الخلاف معه”، أي بمعنى أنه لن يكون في مواجهة الحزب في الاندفاعة الاقليمية التي بدأت بانخراطه في الحرب السورية مروراً بتدريب الحوثيين في اليمن، وصولاً إلى هجومه المباشر والدائم على دول الخليج العربي، ما أوصلنا إلى ما نحن عليه من عزلة عربية، ضارباً عرض الحائط بتاريخ لبنان وعلاقته الوثيقة بمحيطه العربي، واتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية العبثية التي دارت في أواخر القرن الماضي، والذي ثبّت هوية لبنان وانتماءه العربي.
لكن السؤال البديهي هو لماذا قرر “حزب الله” وعن سابق تصور وتصميم الهجوم على وليد جنبلاط ولم يخف تصميمه وعناده على ذلك؟ هل لأن جنبلاط لم يوفر في انتقاداته الأخيرة الحزب تارة بتسميته بالمباشر وطوراً من خلال الايحاءات التي يبرع في توجيهها عبر موقع “تويتر”؟ هذه لم تكن المرة الأولى، وعلى “حزب الله” أن يعيد قراءة التاريخ.
عقب الانتخابات النيابية التي جرت في العام 2009 نقلت الصحف المحلية عن رئيس المجلس النيابي نبيه بري قوله إن جنبلاط لا يضيع البوصلة، غامزاً في هذا المنحى من قناة الذين يأخذون على جنبلاط “تقلباته” السياسية، فيؤكد لهم أن رئيس “الاشتراكي” ثابت على قناعاته العروبية ومواقفه الوطنية ولا يحيد عنها، لكنه في اللعبة السياسية الداخلية يقرأ التحولات جيداً ويميل معها كي لا تأخذه رياحها في طريق هبوبها.
وإذا كان “حزب الله” يتوهّم، وهو على الأرجح كذلك، أن جنبلاط ضعيف أو محشور في الفترة الحالية، فعليه التمعّن في تاريخ رئيس “الاشتراكي” والمحطات المفصلية التي مرّ بها منذ ولوجه عالم السياسة عقب اغتيال والده الشهيد كمال جنبلاط.
على الحزب أن يعطي جنبلاط حقّه في خوض المعارك السياسية الطاحنة التي واجهها قبيل حرب الجبل التي جرّ إليها جرّاً، مع انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيساً للجمهورية الأمر الذي كان بمثابة ضربة قاسية لتوجهات جنبلاط آنذاك، ثم بدء الاجتياح الاسرائيلي الذي وصل إلى قلب الجبل وتحديداً إلى قصر المختارة، لكن جنبلاط لم يهادن واختار طريق المواجهة والانحياز إلى دمشق العروبة، فصمد وانتصر.
وعلى الحزب ألا ينكر أن جنبلاط الذي كان ما زال يعيش هاجس اغتيال والده نتيجة مناصرته للقضية الفلسطينية ورفضه الدخول في السجن العربي الكبير، أطلق من منزله وإلى جانبه اثنان من كبار المناضلين الوطنيين محسن ابراهيم وجورج حاوي، “جبهة المقاومة الوطنية” التي كان لها الفضل في إسقاط اتفاق الذل في 17 أيار وانتفاضة 6 شباط إلى جانب حركة “أمل” بقيادة الرئيس بري وفتح الطريق أمام المقاومة لتحرير جنوب لبنان والتي احتكرها “حزب الله” على طريقته.
وهل يستطيع الحزب إنكار الحصار الكبير الذي واجهه جنبلاط مع بداية عهد الرئيس السابق أميل لحود وتبوؤ الرئيس السوري بشار الأسد السلطة في دمشق، وكيف أنه قاوم وانتصر في انتخابات العام 2000 على الرغم من كل الألاعيب التي مورست ضده بغية تحجيمه، وكيف أنه على الرغم من ذلك وقف إلى جانب قرنة شهوان والبطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير مطالباً بإعادة تموضع القوات السورية في لبنان تنفيذاً لاتفاق الطائف، ما دفع النائب البعثي عاصم قانصوه إلى تخوينه وهدر دمه علناً في مجلس النواب، ومع ذلك سارت قافلة جنبلاط ولم تتزحزح؟
هل نسي “حزب الله” أنه عقب رسالة التهديد المباشرة التي وصلت إلى جنبلاط عبر محاولة اغتيال النائب مروان حمادة ومن ثم الزلزال الكبير الذي أودى بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كيف أن زعيم المختارة قاد انتفاضة 14 آذار وصولاً إلى انسحاب القوات السورية من لبنان، ثم اندفاعه نحو تشكيل قاعدة التحالف الرباعي في انتخابات العام 2005 الذي ضم الحزب إليه لافشال كل محاولات زرع الفتنة في لبنان؟
وهل ينسى الحزب أنه بمحاولة إلصاق تهمة قرارات حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في 5 أيار 2008 بجنبلاط في تبرير لمحاولته الفاشلة في غزو الجبل، كيف أن الدروز، جميعهم وقفوا في وجه جحافله التي فشلت في قلب معادلة القرار الدرزي الموحد خلف جنبلاط ولم ينجح في تحجيم زعامته؟
ليست المرة الأولى التي يحاول فيها “حزب الله” التضييق على جنبلاط، لكن نتائج انتخابات العام 2018 التي يزعم الحزب أنه “ساير” خلالها جنبلاط، أثبتت أنه على العكس حاول جاهداً التضييق عليه وحرمانه من أصوات ناخبيه الشيعة في بعبدا وعاليه والشوف، لكن موقف الرئيس بري ساهم في التخفيف من انعكاسات موقف الحزب الذي قرر المحاولة مجدداً في الانتخابات المقبلة ولكن هذه المرة من خلال حشر الرئيس بري، حليف جنبلاط “اللدود” في الزاوية.
فوفقاً للمعلومات أن بري الذي كان مجتمعاً إلى وفد من “حزب الله” برئاسة النائب محمد رعد فوجئ بموقف الأخير الذي أبلغه قرار الحزب عدم مسايرة جنبلاط، وضغط على بري ليسير معه في هذا الاتجاه. وفي قراءة أولية للمعطيات الانتخابية المتوافرة فإن موقف الحزب سينعكس حتماً على نتائج نواب جنبلاط في دائرة بيروت الثانية إذا قرر ترشيح شخصية درزية لمواجهة النائب الاشتراكي فيصل الصايغ، وعلى النائب الاشتراكي وائل أبو فاعور في دائرة البقاع الغربي – راشيا من خلال تبني الثنائي ترشيح طارق الداوود شقيق النائب السابق فيصل الداوود، وعلى النائب مروان حمادة إذا قرر السير بدعم الثنائي طلال أرسلان ووئام وهاب في دائرة عاليه – الشوف، ناهيك عن الفوز بالمقعد الدرزي في حاصبيا الذي يترشح عادة على لائحة الرئيس بري ويتم اختياره بالتوافق مع جنبلاط.
لكن ما يجهله “حزب الله” أن زعامة وليد جنبلاط على الدروز لم تكن يوماً مستندة إلى عدد المقاعد النيابية التي يفوز بها، فهذا الرجل الذي استطاع أن يفرض نفسه رقماً صعباً في السياسة اللبنانية لم يتمكن خصومه على اختلاف مشاربهم من زحزحتها أو التأثير عليها، ولا فرق إن خسر جنبلاط المقاعد النيابية التي يستهدفها “حزب الله” أو فاز بها، فهو من دون أدنى شك سيبقى، وتبقى زعامة المختارة، بمثابة كرسي الرسول بطرس في روما بالنسبة الى الكاثوليك، ثابتة وصامدة ودائمة.
أليس هو من قال إنه على استعداد لبيع المختارة حتى لا يرى أحداً من أبناء طائفة الموحدين جائعاً أو عاجزاً عن الدخول إلى المستشفى؟ أليس هو من من ورث عن والده، الذي ورث عن جدّه، مساحات شاسعة من الأراضي والعقارات وضعها وسيضعها عند الحاجة بتصرف أبناء ملته لكي تغنيهم عن الحاجة؟
لقد أعلن وليد جنبلاط من دار طائفة الموحدين الدروز اليوم أن “هناك ملامح لإلغاء الدور الوطني والعربي الذي قامت به المختارة ورفاق الصف في اللقاء الديموقراطي. وهذا الأمر سنواجهه بهدوء وحزم، ونعلم أن مشروع المقاومة وحلفائها هو إلغائي في الأساس ومصادَر لا يعترف بأحد ولا بالتراث ولا بالتاريخ ولا بالتضحيات، وهذا ما نشهده في كل يوم. لكننا سنختار الطرق السلمية ولا مجال لنا الا الطرق السلمية والسياسية للمواجهة”.
قرّر جنبلاط المواجهة وعلى “حزب الله” أن يقرأ التاريخ جيداً وعسى أن لا يضيّع… البوصلة.