تتزايد عوامل عدم الاهتمام الخارجي بالوضع اللبناني البائس، في موازاة بطء تحرّكات الحكومة وتخبّطها في ما تسمّيه “خطّة التعافي”.
لا شيئ أخطر وأسوأ من إشعار اللبنانيين بأنهم مدعوون فقط الى قبول ما يعيشونه على أنه قدر وواقع لا خروج منهما. أصبحوا يعرفون أن أزمة لبنان غابت عن الأولويات الدولية، فالأطراف التي كان يُفترض أن تساعد البلد انتهت الى اليأس من عدم تعاونه لإنقاذ نفسه، وباتت الآن منشغلة بحرب مقلقة جداً لأنها مفتوحة على أسوأ المخاطر، ومكلفة جداً لطرفيها معاً، فمن فُرضت عليه عقوبات يعاني وسيعاني أكثر، ومن فَرَض العقوبات يخسر وسيخسر أكثر.
أما أطراف الداخل اللبناني، وتحديداً منظومة الحكم، فتبدو منفصلة عن العالم ومشاغله، إذ أن حاكمها “حزب إيران/ حزب الله” لا يرى سوى فوائد ومكاسب له في حرب أوكرانيا وتداعياتها العالمية، لأنها – على الأقلّ – تفتح له فرص قولبة لبنان على النحو الذي يناسبه، من دون عراقيل أو تدخلات رادعة.
لم يقبل زعيم هذا “الحزب”، حسن نصرالله، ادانة لبنان للعدوان الروسي على أوكرانيا فنسب بيان الخارجية الى السفارة الأميركية، وفجّر غضبه من رفاقه في المنظومة: “لا تكونوا عبيداً لأميركا”. عدا أن الواقعة (إعداد بيان الادانة في السفارة) لم ترد إلا على لسانه، والأرجح أنها ملفّقة، فإنه كان يعني “كونوا، فقط، عبيد إيران”.
هذا لا ينفي أن البيان نفسه أثار تساؤلات، لأن الخارجية تابعة لميشال عون وجبران باسيل، ولأنها لم تكن مضطرّة للجهر بهذا الموقف طالما أن دولاً كثيرة عربية وغير عربية فضّلت التريّث.
الأكيد أن الرئيس وصهره لم يوافقا على البيان بدافع “مبدئي” بل بهدف تجميع نقاط حسن سلوك قد تنفع في رفع العقوبات الأميركية عن باسيل. أما ما أزعج نصرالله فهو أن الإدانة يمكن أن تنسحب على أي عدوان، كما هي حال الاحتلال الايراني للبنان.
الأكثر إزعاجاً أن حاملي شعار “المقاومة” تابعون لايران، وأن الأخيرة مصطفة الى جانب المعتدي الروسي، في حين أن الأوكرانيين يخوضون مقاومة حقيقية.
من حيث يدري أو لا يريد أن يدري، دهمت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان “حزب إيران” بمفاجأة قرارها إدانة اثنين آخرين من عناصره في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، أصبحوا ثلاثة مجرمين مدانين، مهَرَّبين من العدالة، متوارين ومخفيين أو منفيين في طهران، وربما مقتولين، كما صُفّي سواهم من “قادة” قتلة تورطوا في هذه الجريمة.
إنه دم رفيق الحريري ورفاقه، وليس قرارات المحكمة فحسب، من يطارد هذا “الحزب” المشؤوم ومَن خططوا وأمروا ونفّذوا، مهما فَجَروا وتجبّروا، على الرغم من تمترسهم وراء “ضمائرهم” التمساحية.
جاء قرار المحكمة، لا ليذكّر اللبنانيين بالواقعة الأليمة تحديداً، بل بأن الأزمة التي يعيشونها إنما هي من ارتدادات الاغتيالات المتسلسلة التي ارتكبها “الحزب” تمهيداً لسيطرته وتمكيناً لايران.
أيُّ طرف داخلي أو خارجي، مهما بلغ إجرامه، ما كان ليستسهل هذا الكمَّ من القتل في سوريا كما في لبنان ليصل الى أهدافه.
وأي حزب، مهما بلغت انتهازيّته، لا يمكن أن يرتضي لبلده أن ينهار، ولأهله كل هذا الذلّ والعوز والهوان، من أجل أن يسود، بل لماذا يسود في هذه الحال؟
استطاع “حزب المجرمين” هذا، المصنّف إرهابياً حول العالم، بالاغتيالات وبغزو بيروت وبحماية الفاسدين والمُفسدين وبالتموّل من التهريب، أن يصبح فوق الدولة، وفوق الدستور والقوانين، بل انه يملك الغالبية في مجلس النواب، ويستعد استناداً الى قانون الانتخاب المتخلّف للدفع بالعديد من الدمى والأزلام من مختلف الطوائف والمذاهب الى المجلس لتدعيم تلك الغالبية وتوسيعها.
إنه يريد ثلثي البرلمان هذه المرّة لتمرير ما يشرعن سلاحه غير الشرعي ومجمل وضعه غير القانوني وليُدخل تعديلات على الدستور تمكّنه من التلاعب بصيغة النظام. أدرك هذا “الحزب” أن معظم زخم “ثورة 17 تشرين” كان ضدّه، وأن مطالب الإصلاح والتغيير كان جلّها موجّهاً للخلاص من سطوته وترويضه لأفرقاء المنظومة، لذا سلّط زعرانه عليها.
أما الآن فهو يريد الإجهاز عليها نهائياً عبر “صندوق الاقتراع”، وإذا نجح، إذا مكّنه الناخبون من ذلك، فستفقد الاحتجاجات مبرّرها، لن يعود لها أي معنى، وسيُقال بحق إن الشعب لا يريد اصلاحاً ولا تغييراً.
أدّى تكرار الجرائم الى جعلها أمراً واقعاً أو طبيعة ثانية للبلد، ويُعوّل عليها لفرض “التغيير” الذي يريح القتلة، وبفعلها تمكّن “الحزب” من تكريس نمط الإفلات من المحاسبة والعقاب.
فمن إزاحة عقبة سياسية صعبة مثل الحريري، الى انتهاك بيروت، لم يكن “الحزب” ليمرّر التحقيق في انفجار مرفأ بيروت.
بذل الكثير من القتل والتهديد والوعيد ليطيح المحكمة الدولية، لكنه لم يستطع تعطيلها أو “قبع” رئيسها، لأنها دولية.
في المقابل، استخدم “الحزب” كل أساليب الترهيب والبلطجة ونجح حتى الآن في استبعاد الحقيقة والعدالة عن جريمة المرفأ، لأن التحقيق داخلي، ولأن تصفية بعض الشهود وترهيب أهالي الضحايا والتلاعب بالقضاء، وصولاً الى التهديد بـ “قبع” قاضي التحقيق، أفلحت في تجميد القضية. كما في إيران، كذلك في لبنان، ليس هناك حقٌّ خاص أو حقٌّ عام، هناك فقط ما يرتئيه “الحرس الثوري” وشبّيحة بشار الأسد، إذ يخزّنان نيترات الأمونيوم حيث يريدان، مستخفَّين بحياة الناس.
بالنسبة الى نصرالله ونعيم قاسم وهاشم صفي الدين ومحمد رعد وسائر عناصر الطغمة، تجب المفاضلة في لبنان بين خيارين: المشروع الإيراني، والمشروع الأميركي – الإسرائيلي. وفي عرفهم أن من لا يؤيّد الأول فهو بالتأكيد مع الثاني.
اللبنانيون لا يصدّقون ما يقال بل ما يرونه بأم العين، ويتطلّعون الى من يمكّنهم من استعادة الحدّ الأدنى من العيش السويّ. وهم مدركون، بعدما خبروا كلّ أنواع المحن – من سرقة أموالهم وحرمان من كل أساسيات الحياة الانسانية – أنهم حالياً في قاع “المشروع الإيراني”.
ومع ذلك يتوعّدهم هاشم صفي الدين بـ “الخيار الأقصى” ويشرح بأنه “الاعتماد على أنفسنا لبناء وطننا” ولـ”تكنيس الأميركيين وأزلامهم من لبنان”.
لا شكّ أن شيئاً في داخله ينبئه بأن لبنان (وسوريا والعراق واليمن) يحتاج خصوصاً الى “فسحة الأمل” في المستقبل، وهذه تتطلّب أيضاً “تكنيس” إيران وأزلامها.