هل بدأ الرئيس فلاديمير بوتين يضرب عشوائياً في أكثر من مكان، في محاولة منه لنقل الحملة العالمية على بلاده، الى مكان آخر، قد يكون في أوروبا أو آسيا أو الشرق الأوسط؟
الواضح حتى الآن، أن الرئيس الروسي الذي رمى بثقله العسكري في أوكرانيا، يعرف أن أي حرب أخرى مع أي دولة جارة، ستعني مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي، في ظل تقارير ووقائع تؤكد أن جيشه الغارق في وحول الجار الأوكراني، غير قادر على خوض حربين في وقت واحد.
أضف الى ذلك أنه يعرف أن اللجوء الى السلاح النووي هو سيف ذو حدين، وأن احتمال الاعتماد على حلفاء يعتد بهم ليس مؤكداً أو على الأقل لا يضمن له مخرجاً يحفظ ماء الوجه أو يبقيه قوة عظمى مهابة، والمقصود هنا حلفاء من أمثال الشيشان وبيلاروسيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اضافة الى مناطق الانفصاليين في أوكرانيا نفسها .
وليست الغارة التي شنها الجيش الروسي على موقع تدريب أوكراني – غربي قرب الحدود البولندية، الا اشارة الى حجم الخطر الذي يمكن أن ينتج عن اللعب بالنار، وهي الاشارة التي أخرجت الولايات المتحدة من خانة الداعم من بعيد الى خانة التلويح بالتورط عن قرب وفي شكل مباشر.
وليس القصف المفاجئ الذي انطلق من الأراضي الايرانية نحو القنصلية الأميركية ومقر للاستخبارات الاسرائيلية في أربيل العراقية وفق السلطات الايرانية، الا اشارة نوعية أخرى، لا تبدو أصابع بوتين بعيدة عنها، خصوصاً أنها لجمت اتفاقاً وشيكاً بين ايران وأميركا كانت تحاول موسكو عبثاً الاستفادة منه في ما يتعلق بالعقوبات المفروضة عليها، وحولت انتباه الأميركيين من الجبهة الأوروبية الى جبهة الشرق الأوسط.
وقد يقول قائل إن لا مصلحة لايران في فتح جبهة مع اسرائيل أو أميركا في وقت كانت تقترب من إبرام اتفاق تاريخي مع الولايات المتحدة يرفع عنها ثقل العقوبات، لكن الواضح أن ايران التي تقرأ التحولات الاستراتيجية العالمية جيداً، ربما أدركت أن التصعيد في الشرق الأوسط في هذه اللحظة المفصلية المهمة، سيرغم أميركا التي تواصل فرض الشروط عليها في مفاوضات فيينا، على التراخي تجنباً للانشغال بأي جبهة أخرى، هي التي تحاول تحذير الصين من مغبة دعم الجيش الروسي.
ويعتقد مراقبون عسكريون، أن ايران ردت بنفسها على مقتل اثنين من ضباطها في سوريا، بقصف هدف اسرائيلي في العراق، وليس من لبنان كما كانت الحال في مراحل سابقة، ربما لتحذير دول الخليج أولاً من نشر قواعد عسكرية إسرائيلية قرب حدودها، وثانياً نقل رسالة من موسكو الى تل أبيب تعكس استياء الكرملين من الموقف الاسرائيلي الذي تجنب الوقوف معه على الرغم من التعاون المخابراتي الذي أبداه الروس في حرب اسرائيل على مواقع “حزب الله” والحرس الثوري في سوريا.
ويذهب هؤلاء المراقبون بعيداً الى حد الربط بين قصف أربيل وانخراط آلاف المقاتلين السوريين في القتال الى جانب الروس في أوكرانيا تماماً كما فعلوا ضد الأرمن في ناغورني كاراباخ، في خطوة شكلت مع المقاتلين الشيشان، ما يشبه “غزواً اسلامياً” غير مباشر لجهة مسيحية أخرى وذلك بتخطيط غير مباشر من الرئيس بوتين الذي يحاول أن يلعب دور العراب في العالمين العربي والاسلامي، مستغلاً انسحاب الأميركيين من أفغانستان وتقاعسهم عن نصرة الخليج في مواجهة النفوذ الايراني عموماً والحوثيين خصوصاً.
وليس الموقف المتشدد الذي اتخذه البابا فرنسيس من الغزو الروسي الا ترجمة ضمنية لهذا المشهد، الذي بدأ يتلمسه المسلمون المنتشرون في الدول الغربية التي رأت في تورط السوريين في حرب أوكرانيا نوعاً من الخيانة أو الطعن في ظهر مجتمعات منفتحة منحت الآلاف منهم ملاذات آمنة وجديدة بعيداً مما كانوا يعانونه في بلدانهم الأصلية.
والسؤال هنا، هل ينجح بوتين من خلال حلفائه في أوروبا والشرق الأوسط في جر الأميركيين الى جبهات أخرى لتخفيف الصغط عن جيشه؟ الجواب لا يبدو متماهياً مع هذا الأمر، في وقت يحاول الأميركيون القتال بالواسطة مطلقين اتهاماً مباشراً الى الحكومة الايرانية بقصف جنودها في أربيل، ومتعهدين تزويد العراق وكردستان ما يلزم من أسلحة نوعية متطورة لمواجهة الصواريخ البالستية الايرانية، في خطوة يمكن أن تضع سلاحي الجو والبر الايرانيين في ما يشبه وضع الروس في أوكرانيا.
أضف الى ذلك العقوبات التي فرضها الغرب على بيلاروسيا وتلك التي طاولت كوريا الشمالية، والتحذيرات التي تمنع الصين من نصرة حليفها الروسي أو القيام بأي مغامرة في اتجاه تايوان، في ما يشبه الحصار الشامل المدعوم بتعزيز قوات الناتو في الأوروبيتين الغربية والشرقية.
ومع فض اجتماع مقرر في بغداد بين ايران والسعودية بعد إعدام ٨١ معارضاً في الرياض على خلفية أعمال أمنية محبوكة ايرانياً، وجدت ايران نفسها وحيدة في منطقة معادية من كل الجهات تماماً كما هي حال روسيا، وباتت أمام واحد من حلين: اما الاكتفاء بما جرى في أربيل وانتظار ما تسفر عنه الحرب الأوكرانية، واما اللعب على ما تعتبره عامل وقت مناسباً وتفجر كل الجبهات عسكرياً في وقت واحد ومنها الجبهة اللبنانية، واما سياسياً من خلال استغلال فائض القوة والانشغال الدولي لوضع اليد تماماً على لبنان.
ومع اقتراب النيران الروسية من الحدود البولندية، يجد بوتين نفسه أمام واحد من حلين: اما الاكتفاء بما حققه حتى الآن والقبول بتسوية سياسية قائمة على شعار “لا غالب ولا مغلوب”، واما القتال حتى آخر رجل في كل من روسيا وأوكرانيا.