يزداد المشهد السياسي وضوحاً بعد انقشاع غبار المعركة الانتخابية القاسية التي شهدها لبنان، بحيث يعترف القاصي والداني بأن “القوات اللبنانية” تعتبر أبرز الرابحين على الرغم من كل عمليات التهويل والترهيب التي مارسها “حزب الله” وحلفاؤه قبل العملية الانتخابية وخلالها. ربما من المبكر تحديد ما سيكون عليه تكتل “القوات” في المجلس النيابي ولا سيما إذا انضم إليه بعض الحلفاء، لكن من الثابت أنه سيكون أكبر تكتل نيابي وطني ومسيحي.
أولاً، لم يأت فوز “القوات” من العدم، فهي اعتمدت الوضوح في خطابها وأدائها في مواجهة “حزب الله” منذ البداية، وتوخّت الدقة في “تشخيص” مرض لبنان الذي يكمن في تحالف السلاح والفساد، وهذا ما أكسبها ثقة الناس المتألمين من الوضع الذي وصل إليه لبنان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ولا شك في أن الانتخابات النيابية كانت استفتاء حول خيارات القوى السياسية، ولا أحد يمكنه التشكيك في وجدان الناس السياسي الذي يعتبر صادقاً، بل المطلوب احترام هذا الوجدان، وبالتالي احترام ما تمثله “القوات”، وهي بدورها تحترم خصوصيات القوى السياسية وخياراتها وخصوصاً من يؤمن بالأهداف نفسها حول سيادة لبنان وحريته واستقلاله والرغبة في بناء دولة فعلية والانفتاح على المجتمعين العربي والدولي، ولو حصل اختلاف مع قوى سياسية سيادية الهوى، هذا الأمر لا يفسد في الود قضية، لأن طريق النضال طويلة ولا بد من أن يلتقي الجميع عند منعطفات سياسية معيّنة، كما حصل في ثورة الأرز عام 2005.
ثانياً، الانجاز الأساس الذي حققته “القوات” هو نزع الغطاء المسيحي عن مشروع “حزب الله” وسلاحه، ولم يعد رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل قادراً على التحدث عن وكالة مسيحية أعطيت له شعبياً ليأخذ المسيحيين إلى خيارات لا تشبه تاريخهم السيادي المقاوم والرافض لتحالفات مع أنظمة شمولية كالنظام السوري أو أنظمة تيوقراطية كالنظام الايراني. لقد أدرك المسيحيون، ولو متأخرين، أن سياسة “التيار” ستقودهم إلى تغيير وجه لبنان ونمط الحياة الاجتماعية التي اعتادوا اليها، بل سيدفعهم إلى مزيد من الانهيار والغرق في مركب “حزب الله” الممانع، مما سيؤدي إلى هجرتهم وتبعثرهم في الشتات، وزوال فكرة لبنان التعددي نهائياً.
لا يختلف اثنان على أن باسيل مع تياره هو الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات، وعلى الرغم من فوزه ببعض المقاعد النيابية، إلا أنه حقق أكثريتها بعضلات “حزب الله” وليس بقوته الذاتية، علماً أن الأكثرية النيابية المسيحية أصبحت في مكان آخر، وتحديداً بقيادة معراب، بما لا يقل عن 20 نائباً وأكثر. وهذا الانجاز “القواتي” يلتقي مع خيارات الكنيسة المارونية التي رفعت شعار “الحياد”، ويبدو أن هناك مشروع توأمة بين بكركي ومعراب، فالهمّ المسيحي والوطني واحد، والمصير واحد، ولا شك في أن البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي راض عن النتائج ويريحه الفوز القواتي، وغالباً ما كانت الرؤية مشتركة حول ضرورة استقرار لبنان وخروجه من لعبة المحاور وضرورة الخروج من العزلة العربية والدولية، وهذه الرؤية المشتركة ستمتد إلى استحقاقات دستورية آتية ولا سيما انتخابات رئاسة مجلس النواب ورئاسة الجمهورية، ونضال المرجعيتين سيستمر “على الحلوة والمرّة”.
ثالثاً، لم يغب عن “القوات اللبنانية” يوماً أن طبيعة المواجهة ليست مسيحية – مسيحية إنما من طبيعة وطنية، والانقسام العمودي هو حول مشروعين كبيرين أي لبنان السيادي والمستقل أو لبنان التابع لايران، وتلك الحقيقة تؤكدها ثورة الأرز التي شهدت تضافر جهود كل الشعب اللبناني وكل القوى السياسية المسيحية والاسلامية لتحرير لبنان من الاحتلال السوري، وتعي “القوات” اليوم أن الحاجة كبيرة الى توحيد جهود كل القوى السياسية المعارضة، ولو كان عدد نوابها كبيراً، إلا أنها بحاجة إلى الجناح المسلم، وربما تلتقي مع بعض الشخصيات السنيّة الفائزة في الانتخابات مثل اللواء أشرف ريفي وفؤاد مخزومي وخالد قباني وغيرهم، وليس مستبعداً أن ينضم تيار “المستقبل” قيادة وشعباً إلى أي مواجهة سياسية ولو من خارج المؤسسات الدستورية.
وتعلم “القوات” أنها تحتاج إلى التعاون مع كل القوى التغييرية المعارضة، وهي تمد يدها إلى الجميع، وهؤلاء يجب أن يعلموا أن عملهم على نحو فردي لن يكون مجدياً ومثمراً إلا بالتعاون مع كل القوى السياسية المناهضة لمشروع “حزب الله” في المجلس النيابي، وما هو متوقع انشاء كتلة معارضة كبيرة بين الأحزاب السيادية والقوى التغييرية داخل البرلمان تشكّل الثلث المعطل لأي مشاريع مشبوهة يقوم بها “الحزب”، وإلا سيكون التأثير ضعيفاً وخصوصاً في الاستحقاقات الدستورية وأهمها انتخابات رئاسة الجمهورية.
لم تعد “القوات” اللبنانيين بالمنّ والسلوى، لأن الأيام المقبلة ستكون أصعب وأخطر، إلا أن النضال السياسي يجب أن يستمر وإلا نكون شعباً لا يستحق هذا الوطن!