في خطوة لافتة من حيث التوقيت والمضمون، تقدم رئيس “اللقاء الديموقراطي” النائب تيمور جنبلاط باقتراح قانون لانشاء الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية، تطبيقاً للدستور وفي تمهيد لانتخابات نيابية خارج القيد الطائفي وصولاً إلى انشاء مجلس للشيوخ.
ويبدو اقتراح القانون في توقيته مع بداية اكتمال عقد المجلس النيابي الذي تجاوز “قطوع” انتخابات رئيسه وهيئة مكتبه، لافتاً بحيث أنه أول اقتراح قانون يقدّم إلى المجلس الجديد الذي ضم بين أعضاء نواباً جدداً ترشحوا على أساس “تغيير” النظام الطائفي القائم ورفضهم الصيغة برمتها، فكان أن “تحدّاهم” جنبلاط بتقديم اقتراح القانون الذي كان جدّه الراحل الشهيد كمال جنبلاط أول من نادى به، فهل سيلاقيه هؤلاء التغييريون؟
أما من حيث المضمون، فإن جنبلاط وفي تقديمه اقتراح القانون، اعتبر أن ما يقوم به “خطوة باتجاه تطبيق الدستور وتطوير النظام على طريق قيام الدولة المدنية”، مشيراً إلى أن “الطائفية السياسية بما ترسيه من امتيازات متعاكسة مع المصالح الحقيقية للأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني، هي السمة الرئيسة للنظام السياسي المتخلّف ومنها تنبع وعليها تترتّب مختلف مظاهر الخلل الرئيسة التي بيّنها هذا النظام”.
لم يتمكن جنبلاط الجد من تحقيق هذا “الحلم” الحقيقي بالنسبة الى كل أطياف المجتمع اللبناني من خلال البرنامج المرحلي للحركة الوطنية، الذي كان واضحاً أن معظم من يدعون أنهم “قوى تغييرية ومن صميم ثورة 17 تشرين”، كانوا وما زالوا ينادون بأفكار إصلاحية منبثقة من برنامج الحركة الوطنية، وشعارات الثورة كلها جاءت واضحة ومن دون لبس في ذلك البرنامج الذي ولأسباب “طائفية” معروفة جرى إجهاضه ووصل الأمر إلى حد اغتيال صاحبه.
لم يتقاعس رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بدوره عن تبني مشروع والده وحاول في جميع مراحل حياته السياسية إقناع من كان يجب إقناعه بتبني بعض البنود الاصلاحية التي وردت في متن البرنامج المرحلي، غير أن الظروف السياسية التي عاشها جنبلاط الابن والمعارك الجانبية الكثيرة التي اضطر إلى خوضها، لم تسمح له بالمضي قدماً في تبني المشروع الاصلاحي الكبير، والظروف كانت خارجية إقليمية بقدر ما كانت داخلية.
واليوم يحاول الحفيد المتشرّب أفكار جّده والمؤمن بها إيماناً عميقاً السعي إلى تحقيق ما عجز عنه الجد والأب، وقد خطا الخطوة الأولى نحو تشريع ما ورد في البرنامج المرحلي من خلال طرح اقتراح قانون لانشاء الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية، وهو بند ورد في دستور الطائف ولم يطبق لأن سلطة الوصاية وأزلامها في الداخل رأوا أن مصالحهم التي استمرت على مدى سنوات ثلاثين كانت تتعارض مع أي فكرة إصلاحية فعرقلوا تنفيذه.
وتابع تيمور جنبلاط في شرح الأسباب الموجبة لاقتراحه أنه “على قاعدة الامتيازات الطائفية الموروثة يؤدي هذا النظام السياسي وظيفته في حماية الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المهيمنة”، مؤكّداً ما تسبب به هذا النظام من فوارق وخلل في التركيبة الاجتماعية والتي ساهم الذين تولوا المسؤولية، كلهم من دون استثناء وعلى قدر حجمهم، في تكريس المصالح الشخصية وتعزيز الفساد لحماية هذه المصالح، ما أوصلنا إلى انهيار كان حتمياً، وساهم العهد القوي في توسيع الحفرة التي سقط فيها البلد وأبناؤه وليس هناك أي مؤشر يشي بإمكان الخروج من هذه الحفرة في وقت قريب.
وأضاف جنبلاط: “إن النظام الطائفي بما ينشره من عصبيات ويكرّسه من علاقات عشائرية مختلفة قد حجب الكفاءات عن الظهور وتسلّم مقاليد الأمور، كما أن قانون التمثيل السياسي بصيغته الراهنة قد أسهم بدوره في خفض مستوى الكفاءات وفي حجبها عن الظهور”.
لا يمكن لعاقل أن يغشى نظره ولا يقتنع بأن قانون الانتخاب المعمول به الرقم 44/2017 ذا الظاهر النسبي والطائفي بعمقه، هو أسوأ قانون يمكن أن يسمح بتحقيق أي تقدّم على مستوى التمثيل السياسي، والقوى التي ساهمت وعملت جاهدة لانتاجه انطلقت من حسابات شخصية ضيّقة على قاعدة مذهبية وزبائنية، وما الاصرار على التمسّك به سوى دليل على البعد الكلي عن المصلحة الوطنية التي تقتضي بما تقتضي، الخروج من شرنقته التي حبست كل اللبنانيين وساهمت في وصولنا إلى ما نحن عليه.
أصبح واضحاً أن مبتدأ التغيير هو صياغة قانون انتخابات عصري وخارج القيد الطائفي، وخبر التغيير هو اقتراح جنبلاط إنشاء الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية التي توصل، كما ينص الدستور، إلى إنتاج مجلس نيابي خارج القيد الطائفي تتمثل فيه كل الكفاءات بمعزل عن طائفتها أو مذهبها، وتراعى بعدها مصالح الطوائف من خلال مجلس للشيوخ تكون صلاحياته بحدود صيانة حقوق الطوائف.
ما الضير إذا كان من يستحقون تبوؤ الادارات العامة كلهم من هذه الطائفة أو تلك؟ وما الضير في أن يصل إلى أعلى سلم الهرمية الوظيفية من كانوا من أصحاب الكفاءات والخبرات اللازمة حتى لو انتموا كلهم إلى مذهب واحد؟ من هنا يبدأ التغيير ومن هنا ينطلق قطار الاصلاح وإن لم يكن كذلك، واستمرت الزبائنية والشعبوية في المواقف السياسية لمن يدّعوا أنهم نواب التغيير والثورة، فعلى الدنيا السلام ولا قيامة للبنان.