كان لتسمية كتلة “اللقاء الديموقراطي” القاضي نواف سلام لرئاسة الحكومة العتيدة، خلال الاستشارات التي أجراها رئيس الجمهورية ميشال عون في بعبدا، قبل أن يقع التكليف على الرئيس نجيب ميقاتي، وقع طيب على اللبنانيين، لا سيما الطامحون منهم إلى التغيير، حتى أنه تسبب بالإرباك لبعض من رفعوا شعار “كلن يعني كلن”، وتشبثوا بقوة برفض التوريث السياسي، وهو أمر لا يبدو أن النظام السياسي اللبناني الحالي قادر على تجاوزه، لا بل إن هذا الواقع يفرض نفسه في أحيان كثيرة، ليكبل أيدي الشباب اللبناني في حصول تحولات تنقذ مستقبله.
صعد نجم تيمور وليد جنبلاط، الذي عرف عنه أنه كاره للعمل السياسي، وأن والده أجبره على ذلك، بصفته وريث العائلة الجنبلاطية، إذ كانت دارة المختارة على الدوام ملجأ طائفة بني معروف العربية، يلتزم الدروز بتوجهاتها، لذلك لم يقفل بابها في وجه أحد منهم منذ قرون خلت. وتبين بالنسبة الى أهل الجبل خلال اللقاءات الانتخابية التي جرت في أكثر من قرية وبلدة، أن هذا الشاب الذي درس العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وتزوج من غير طائفته بفعل علاقة حب ربطته بشريكة حياته، وتسلم من والده زعامة العائلة في العام 2017 في ذكرى اغتيال جده كمال جنبلاط، الزعيم الوطني والمكافح العنيد من أجل حفظ عروبة لبنان وإصلاح النظام اللبناني، لا يشبه والده في انفعالاته، فهو هادئ ومستمع جيد، وسريع في اتخاذ القرار ويتجه الى حل المشكلات من دون تأخير، وهو بذلك، كما يقول بعض المحيطين به، يشابه شخصية جده أكثر مما يشبه والده.
لا شك أن دلالات هذه اللقاءات الناجحة، لا تعود إلى قدرات الأب على فرض توريث تيمور وتكليفه مباشرة من العائلة بمتابعة خطها السياسي، وكذلك تقبُّل الطائفة الدرزية للخيار الجنبلاطي والالتزام به وحسب، فوفق متابعين بدا تيمور شخصية منفتحة، لديها قدرة على التواصل، بل إنه أظهر تواضعاً مميزاً وفهماً واضحاً، وقد تكون المرحلة السياسية التي تسلم فيها القيادة لم تمنحه فرصة التعبير عن الذات، فظل جنبلاط الأب كان مهيمناً، فهو الدينامو السياسي، كمحرك وقارئ ومستشف للعواصف التي تضرب لبنان، والقادر بحكم علاقاته العربية والدولية على القراءة السياسية والتعبير عنها، إلا أن تيمور يملك العلم والمعرفة، وإن لم يكن يملك الخبرة فإنه اليوم يراكم في التجربة، وقد يكون غير محب للمنابر الخطابية، لكنه واعٍ لحجم الثقل الملقى على كاهله بعد أن ألبسه والده العباءة الدرزية وسلمه المهام، وإن كانت رغبته في السابق، بعدم الدخول في العمل السياسي، فمن وجهة نظره السياسة لا يمكن أن تكون بالوارثة، إلا أن القدر يلعب لعبته ويغيّر الأمور ويصقل التجربة بفعل العمل.
بحسب مقربين أيضاً، فإن جنبلاط الأب كان يريد أن يسلم القيادة إلى ابنه في حياته لاعتبارات عديدة خاصة بآل جنبلاط ووضعهم وتركيبتهم، وهو أحاط تيمور بقيادات لها تجربة عملية، لكن للأخير نظرة في العمل السياسي مختلفة، وقد تحمل المسؤولية في مرحلة صعبة وعبئها عليه ليس سهلاً، وقد تململ سابقاً من محاولة فرضه كقائد وزعيم، وكان يردد أن ذلك يتطلب كاريزما شعبية تفرضه في المجتمع، وربما هذا ما نجح به في الحملة الانتخابية الأخيرة.
صحيح أن تيمور أصبح نائباً في العام 2018، إلا أن التطورات العصيبة للبنان من انهيارات، وانفجار المرفأ وفترة كورونا، إضافة إلى فترة التغيرات السياسية والانقسامات الداخلية التي أحدثتها “ثورة 17 تشرين”، لم تظهر قدرات هذا الشاب اليافع، لكن كثيرين من المقربين منه يؤكدون تغيره التدريجي خلال السنوات الأربع الماضية، وتطور نظرته الى العمل السياسي والتمرس به وخوض التجربة في انتخابات 2022 في مواجهة أقطاب سعوا الى إسقاط البيت الدرزي. قد تكون كاريزما الأب ساعدت في تعبيد الطريق له، لكن تيمور بدأ يرى الأمور بنفسه، فقصر المختارة هو المفتاح الأساس للعلاقات والتوازنات في لبنان. من هنا كان يزور المناطق والبلدات، وشكل جمهوراً اِلتف حوله لكونه تيمور جنبلاط، صاحب النظرة التغييرية الذي رأى أنه لم يعد ممكناً متابعة سياسات القديم وتجاهل واقع ما بعد “17 تشرين”، وهو ما استشفه من خلال حواراته، وعليه تجاوز حدود ما هو مرسوم له في قرار كتلة “اللقاء الديموقراطي” بالتصويت لصالح ترشيح نواف سلام، ما يعكس أن قاعدة عمل تيمور السياسي ستعتمد على مفهوم التغيير، وليس المراوحة في المكان.
بالطبع سوف يتساءل البعض كيف يمكن تبرير انتخاب كتلة “اللقاء الديموقراطي” نبيه بري رئيساً لمجلس النواب، وما يعنيه ذلك من أن القديم على قدمه؟
يفسر المقربون أن تيمور لم يكن مع هذا الخيار، لكن جنبلاط الأب قد يكون فرض رأيه لاعتبارات عديدة يراها تصب في عملية التوازانات الداخلية، أو رد جميل، كما يقال عن دعم تلقاه من بري صب في مصلحة مرشحي “التقدمي” ولوائحه وحلفائه، لكنه لم يستطع التأثير على قرار تيمور تسمية رئيس حكومة تتبناه قوى التغيير، وهو رفض بشدة القبول بمشاركة كتلته في حكومة سياسية يرأسها ميقاتي، الذي دعمه جنبلاط الأب والحزب في تشكيل حكومته الأولى والثانية، لن تكون لها تغطية عربية، حتى ولو كان ميقاتي رئيساً لها، ومبارك على القوى التي تريد أن تتوزر فيها، وبهذا رفض تيمور التحاصص المذهبي في الحكومة، ومن هنا فإن نهجه سيكون واضحاً أكثر من خلال البرلمان ومراقبة عمل الحكومة والمؤسسات.
ومن الواضح أن التجديد هو لغة تيمور سواء بالنظرة إلى الحزب ودوره أو بطريقة عمل ممثيله في البرلمان، والتعاون مع وجوه جديدة في العمل السياسي للخروج من الأزمات، وعدم الخضوع لسياسات الابتزاز والمحاصصة والمطاوعة، فتيمور على اقتناع تام بأن من سيحمي مصالحة الجبل وغير الجبل، ولا يتسبب بأي حرب جديدة هو الاعتماد على مبدأ المواطنة والخروج من منطق القديم إلى بناء مفهوم جديد يساعد على إنجاز تغيير ديموقراطي.
وعليه يمكن القول إن الرهان على نهج جديد قد يكون فاتحة خير للتعاون مع القوى التغييرية من أجل إنقاذ لبنان وإخراجه من عنق الزجاجة، وقد تكون تعبيراته واضحة في معركة رئاسة الجمهورية التي تدق الأبواب بشدة.