من الكهرباء إلى التلوث، طريق مليء بالأزمات التي أثقلت كاهل المواطن اللبناني وأصبح يُكلم نفسه محاولاً إيجاد حلول دائمة لدفع فواتير الكهرباء، وكلفة “نقلة” المياه شهرياً وإلا فلن يصمد طويلاً. لا يمكن الاستغناء عن الكهرباء، ليس بسبب ضرورة “المكيف”، ولا لحاجتنا الى مروحة كهربائية تخفف عنا وهج الحر، ولا حتى الى الانترنت والتلفاز و”اللمبة”، فجميعها لم تعد حاجة ضرورية في حياة اللبناني “المعتر”، بل أقله لتشغيل البراد شبه الخالي من الطعام، وحفظ ما تيسر في المنزل من مواد غذائية فيه كي لا تفسد. ولا يمكن الاستغناء عن المياه، فهي شريان الحياة، ومن دونها نَحكم على أنفسنا بالموت البطيء.
في ظل إنقطاع المياه عن كل لبنان لأسباب عدة، منها أعطال يصعب صيانتها بسرعة بسبب التكلفة العالية، وأخرى تعتبر الأبرز وهي عدم توافر الكهرباء لتشغيل المحطات، ترأس وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض المجلس الوزاري العربي للمياه، وأثنى على دور الأشقاء العرب في الدفاع عن القضايا العربية وخصّ مصر لما تقدمه من دعم ودراسات لأضرار قطاع المياه في غزة جراء العدوان الاسرائيلي الغاشم الأخير، ومن دون خجل استطرد في الكلام عن أطماع العدو في المياه العربية وتهديداته حيال سد النهضة للأمن المائي لمصر، وأغفل “معاليه” أنهم في لبنان عاملوا الشعب كما يفعل العدو بالعرب، وكما يُهدد مصر بثرواتها المائية، بتنا اليوم أمام أزمة مياه مرتبطة بأزمة كهرباء وتلوث على صعيد لبنان، من دون أي حلول جذرية على المدى القريب.
في السياق، توجه عدد من أصحاب صهاريج المياه في البقاع برسالة إلى الوزير فياض عبر موقع “لبنان الكبير” جاء فيها: “يا معالي الوزير، صدق فيك المثل: (إن لم تستحِ فاصنع ما شئت)، من سخرية القدر أن تترأس المجلس الوزاري العربي للمياه، وتُحاضر في أهمية هذا المكون الأساس للحياة، والشعب (يلي برقبتك) محروم منه، حتى أنه يعجز عن شرائه بسبب ارتفاع سعر نقلته، حتى نحن كأصحاب صهاريج نعاني من ارتفاع المحروقات وزيادة سعر نقلة الصهريج من النبع أو البئر”.
وأضافوا: “لو كنا مكانك لامتعنا عن الحضور، واستقلنا من منصبنا، واعتذرنا من كل الشعب اللبناني عن التقصير الذي بدر منا، حتى عن عدم استطاعتنا إيجاد أي حل قريب، ولكن يبدو أنكم من فئة إذا ضُرب الحذاء برأسكم صاح الحذاء بأي ذنب أضرب! عذراً (سيد) فياض، حاولنا بشتى الوسائل المطالبة بحقوقنا في أبسط الأمور المعيشية، حملنا على أكتافنا أعباءً أنتم سببها، ولكن طفح الكيل، وتغيرت اليوم لهجة حديثنا، وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه، فللحديث تتمة، أفعال وليست أقوالاً!”.
لبنان عموماً ليس بلداً يعاني من ندرة المياه، ويعتبر من أغنى دول المنطقة بالمياه، فيه ٤٠ نهراً، وأكثر من ٢٠٠٠ من الينابيع الموسمية، ناهيك عن المياه الجوفية التي تتكون من مياه الأمطار والثلوج، ولكن سنوات طويلة من سوء الادارة والفساد جعلت الأمر كذلك، وملف المياه ما هو إلا أزمة من ضمن أزمات لا تعتبر مستجدّة، بل تعود إلى سنوات ماضية اعتاد فيها اللبنانيون على شراء المياه خصوصاً في فصل الصيف، نتيجة للسرقة وسوء التنظيم اللذين تتحمّل مسؤوليتهما الحكومات المتعاقبة. ففي موضوع المياه بالذات هناك إهمال دائم مع انعدام الحلول والخطط البديلة، فلا توجد في المقام الأول بنية تحتية كافية مثل مرافق تخزين المياه والبحيرات، أو أي جهود لإعادة شحن المياه الجوفية بصورة مصطنعة.
وبعدما استفحلت الأزمة، نشطت حركة الشركات الخاصة وموزّعي المياه، وارتفع الطلب حتى صار البيع بالحجز مسبقاً، ما وضعَ الأسر والشركات تحت ضغط متزايد. وقال محمد طقوش، أحد موزعي المياه في العاصمة بيروت: “فوجئت بمنشور سخرية على فيسبوك مفاده أن وزير الطاقة والمياه يترأس مجلساً للمياه على مستوى العالم العربي، (كيف زبطت)؟ ولكن الشيء المؤكد والذي لمسته في هذه الأزمة التي لم تمر علينا من قبل أنه إذا استمرت على المستوى نفسه فسيصل الناس إلى مرحلة لا يعود بمقدرتهم شراء غالونات مياه، أو الاستعانة بمياه ملوثة، وجميع الطُرق تؤدي إلى الموت البطيء، والمرحلة ليست بعيدة. اليوم يُطلب منا تعبئة نصف سعة خزان المياه، وأحياناً أقل من ذلك لعدم قدرة الناس على دفع ثمنه الذي يرتفع كل فترة بسبب غلاء المحروقات تحديداً، ونحن نعاني كثيراً، والمياه لم تصل إلى كل أحياء بيروت كما أشيع، وننتظر الفرج”.
نعم، تحاول اليوم الأسر اللبنانية استهلاك أقل قدر ممكن من المياه داخل البيوت، خصوصاً أن المياه النظيفة لم تعد متيسرة بأسعار معقولة، ويدفع المواطنون جزءاً كبيراً من دخلهم للشركات الخاصة لملء الخزانات الموجودة على أسطح منازلهم، حتى المرافق الحيوية مثل المستشفيات والمراكز الصحية محرومة من المياه الصالحة للشرب بسبب نقص الكهرباء، ما يعرّض الأرواح للخطر، والسيد بلال. ز. يشتري مياهاً للمرة الثانية على التوالي هذا الأسبوع بتكلفة مليون ليرة بسبب الانقطاع المتكرر للمياه، وهي تكلفة عالية تفوق دخله ما يضطره الى الاستدانة لأن عائلته المكوَّنة من خمسة أفراد لا يمكنها الاستغناء عن المياه لفترة طويلة بطبيعة الحال، وحاله كحال الكثير من اللبنانيين الذين أصبحوا بحاجة الى ميزانية خاصة لتعبئة المياه!