يستعيد اللبنانيون المسرحية القديمة – الجديدة نفسها، أزمة تشكيل حكومة، وسيعاد الفيلم القديم – الجديد أيضاً بعد ثلاثة أشهر، أزمة انتخاب رئيس جمهورية، مما يدعو البعض إلى الحديث مجدداً عن فكرة “أزمة نظام” في لبنان، كون هذين الاستحقاقين، يؤثران في كل إدارات الدولة وأجهزتها، فالتعطيل في أي سلطة دستورية من شأنه أن ينسحب على كل قطاعات الدولة، ويجمع خبراء الاقتصاد السياسي على أن الفراغ الدستوري الذي أصاب لبنان في السابق كان له دور كبير في الأزمة الاقتصادية التي يعيشها حالياً.
قوى سياسية ومدنية عدة تعتبر أن حل الأزمة اللبنانية يكون عبر الدولة المدنية، وبعضهم يذهب أبعد من ذلك بطرح العلمنة الشاملة، ويقابله طرح من قوى سياسية ومدنية أخرى، هو الفديرالية، وبين هذين الطرحين يضيع المواطن، ولا يعرف أي طرح يناسب بلده. والمؤكد الوحيد في لبنان أن أكثر معارضي إلغاء الطائفية السياسية، أو حتى قانون انتخاب على أساس غير طائفي هو الثنائي المسيحي، “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر”، اللذان يسوّقان بأن أي طرح مثل هذين الطرحين سيشكل غبناً بحق المسيحيين، فهل فعلا الأمر كذلك؟ أم هناك سبب آخر لرفض “القوات” و”التيار” الطروحات التي تنتشل لبنان من الطائفية؟
التقسيمة الديموغرافية للبنان هي بين مسيحيين ومسلمين، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة: الشيعة، السنة والمسيحيون بجميع مذاهبهم. الشيعية السياسية هي ثنائي حركة “أمل” و”حزب الله” الذي يمثل حوالي 80% من الطائفة الشيعية. أما السنية السياسية فتمثلها فعلياً الحريرية السياسية، وتشمل أكثر من 70% من الطائفة السنية. فيما المسيحية السياسية تتوزع بين قوى عدة، ربما يكون أكبرها “التيار” و”القوات”، ولكن هناك قوى وازنة أخرى، مثل “المردة” و”الكتائب” وأحزاب أخرى وطبعاً العائلات المسيحية السياسية العريقة. ومن هذه التقسيمة يمكن فهم رفض الثنائي المسيحي أي طرح لالغاء الطائفية، أو حتى قانون انتخابي بدوائر موسعة، حتى لو كان نسبياً، علماً أن المسيحيين يؤثرون بقوتهم الخالصة في ثلث مجلس النواب، والشيعة ثلث، والسنة ثلث، وهم بذلك يتوازون بالقوة. لذلك، لو أن المسيحيين غير متنوعين بهذه الصورة وأصواتهم مشتتة، لربما كانوا متحمسين أكثر لإلغاء الطائفية وللمدنية، ولم يكونوا ليمانعوا أن يكون قانون الانتخاب على دوائر موسعة، ولكن كون هذه الطروحات اليوم، تضرب قوة الثنائي المسيحي، فهو يرفضه بصورة كاملة، بل يقود الحملات لاستثارة العصب المسيحي ضدها، ويتحجج بالحجة القديمة نفسها: يجب إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص، ليس حفاظاً على المسيحيين، بل حفاظاً على قوة الحزبين، بحيث تضطر القوى المسيحية من خارجهما إلى التحالف معهما للوصول إلى السلطة، أما في حال المدنية أو توسع الدوائر الانتخابية، فلن تحتاجهما هذه القوى، وهي قادرة على الوصول بقوتها الخالصة أو بالتحالف مع من يشبهها فكرياً، وبالتالي سيضطر ثنائي معراب إلى مشاركة قوته مع باقي القوى.
أما عن طرح العلمنة الشاملة فهو لا يصلح في لبنان، على الأقل حالياً، فمثلاً هل سيكون من المقبول عند الشعب اللبناني أن تصدر مجلة كـ “شارلي إيبدو”؟ أو هل سيكون مقبولاً زواج المثليين أو حتى “مجتمع الميم” بأكمله؟ لا يزال لبنان بعيداً عن تقبل العلمنة الشاملة، والأمر يتعلق بشعبه قبل أن تكون له علاقة بالسياسة، ولكن من الممكن أن يتقبل الشعب الدولة المدنية، وهي لا يمكنها أن تكون فرضاً أو فجائية، بل يجب أن تكون بخطوات متعددة، يمكن أن تبدأ بزواج مدني اختياري، وإضافة “طائفة” المدنيين إلى الأحوال الشخصية، أي أن يكون هناك سماح لمن لا طائفة له على سجله بالتصويت في الانتخابات، والحصول على حقوقه السياسية والمدنية، وقد تسير إلى قانون موحد للأحوال الشخصية. وكذلك يمكن للخطوات الأولى أن تكون إنشاء مجلس شيوخ، وثم إقرار قانون انتخاب دائرة واحدة أو دوائر موسعة، فلا يمكن إلغاء الطائفية من النفوس إلا بالتجربة، بحيث أن من ينتخب من منطلق طائفي لا توجد طروحات أخرى أمامه، فمثلاً في الجنوب، الغالبية تنتخب الثنائي الشيعي، لأنه مقسم إلى ثلاث دوائر، بل ان القانون الحالي يحرم جزءاً من المسيحيين والسنة من أن ينتخبوا ممثليهم، أما لو كان الجنوب دائرة واحدة، فتكون الاختيارات أمام المواطن الجنوبي أكبر، وبدل أن يكون اعتراضه بمقاطعة الانتخاب، لعدم رضاه عن سياسة الثنائي، سيجرب قوى أخرى ويختبرها إن كانت تتناسب مع تصوراته. ومثل الجنوب باقي المناطق والدوائر، ستكون أمام أي مواطن، قوى متعددة للاختيار بينها، وهو يعلم أن باستطاعته إيصالها إلى السلطة، فقد ينتخب الشيعي شخصية سنية تناسب طموحاته، بل حتى المسيحي قد يرى أن طروحات شخصية شيعية ما تمثله أكثر من طروحات الشخصيات من طائفته، هذا الأسلوب هو السبيل الوحيد لإلغاء الطائفية من النفوس، لا ندوات ولا مؤتمرات، ولا طروحات في الهواء، التجربة هي الوحيدة الكفيلة بذلك، وإلى أن يتوقف ثنائي معراب عن العمل لأجل المصلحة الخاصة، والعمل لمصلحة البلد ككل، ستبقى الطائفية، وستبقى أزمة النظام، بل انه قد يقبل بالمثالثة التي تطرحها فرنسا، على الرغم من أنها تقلل من السلطة المسيحية عموماً، ولكنها تبقيها بصورة خاصة، كل ذلك من أجل أن يحافظ هذا الثنائي على سطوته، علماً أن المدنية في أسوأ حالاتها تفيد المسيحيين عموماً أكثر.