لا تحتاج إيران النفط والغاز في المياه اللبنانية، لكنها تريد على المدى المتوسّط أن يصبح تمويل “حزبها” في صلب الموازنة اللبنانية، كما هو تمويل ميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق باستثناء الفصائل المحدودة المرتبطة بها مباشرةً. لا تمرّ مناسبة من دون أن ينتهزها الأمين العام لـ “حزب إيران/ حزب الله” للتذكير بأن “المقاومة”/ وليست الدولة هي المرجعية، وبأن أي أمر لا يحدث إلا بتأشيرة منها، بما في ذلك اختيار الرئيس المقبل الذي يجب أن يكون مناسباً لإيران/ وليس مناسباً للبنان كما يريده البطريرك بشارة الراعي، أو خصوصاً ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. كلا الاستحقاقين سيادي، وكلّ ما هو سيادي أصبح عند حسن نصرالله شأناً إيرانياً خالصاً يستطيع هو وحده أن يفتي فيه، حتى لو لم يكن مخوّلاً ولا مفَوّضاً “وطنياً”.
في اطلالته الأخيرة أبلغ نصرالله اللبنانيين أن ثمة حرباً تلوح في الأفق إذا ارتأتها طهران، وليس دفاعاً عن “حقوق لبنان” كما يمكن أن يدّعي على سبيل التبرير. فقد أهدته إسرائيل (والولايات المتحدة) الضآلة التي كان يبحث عنها للتوتير والتسخين والتلويح بحرب يمكن أن تدمّر لبنان لتؤمّن له “انتصاراً إلهياً” جديداً. لو أنه جيّر اطلاق المسيّرات للدفع فعلاً بالمفاوضات وتقوية موقف الدولة لاستقام المنطق الذي يتّبعه، لكنه لا يأبه بالدولة ولن يفعل إلا متى أصبحت كلّياً “دولته” وراضخة لأمره. لذلك أرسل مسيّراته في مهمة استعراضيّة، تماماً كما واكبت طهران زيارة الرئيس الأميركي الى السعودية بإعلانها عن أول فرقة بحرية تحمل الطائرات المسيّرة في المحيط الهندي. لكن نصرالله يعرف، كما يعرف مرشده علي خامنئي، أن الحرب شيء واللعب بنارها شيء آخر وبالأخصّ إذا كان مسرحها بلداً منهاراً اقتصادياً ومالياً وآيلاً الى التفكك سياسياً واجتماعياً.
لم يعد نصرالله يتورّع عن قول أي شيء، إذ أنه أدمن دوس الدستور وازدراء القوانين وعوّد جمهوره ومستمعيه على ذلك. قال لهم إن إيران مصدر أمواله وأسلحته وصواريخه ولم يواجه أي مساءلة، بل اتّهم معارضي “حزبه” بـ “العمالة للسفارات” ولم يتردّد في هدر دمهم وصولاً الى اغتيالهم. وأكثر من مرّة عطّل المؤسسات إمّا لانتخاب المرشح الذي اختاره لرئاسة الجمهورية أو لفرض أزلامه على التركيبات الحكومية، أو لعرقلة التحقيق في تفجير مرفأ بيروت ثم وقفه. وعندما اندلعت الانتفاضة الشعبية أرسل زعرانه لاختراقها مهدّداً بجعلها “حرباً أهلية” ومؤكّداً اصطفافه و”حزبه” الى جانب منظومة الفاسدين التي يحمي فسادها وتبادله بتغطية سلاحه غير الشرعي… وما دام الآخرون تعوّدوا ولم يتمكّنوا من تعطيل أيٍّ من خططه، ولأنهم لا يملكون سلاحاً لمقاومة ميليشياه، فقد استخلص أنه لم يعد مضطراً لاحترام أي “توازن” داخلي، لا طائفي ولا وطني، وبالتالي فإن “الأمر له” ومن خلاله لإيران، حتى في الذهاب الى مجازفة الحرب.
كثيرون يعتبرون أن الوضع في 2022 يختلف عما كان في 2006، بمعنى أنه لا يساعد إيران و”حزبها” على إشعال حرب، مشيرين بذلك الى الانهيار الاقتصادي. لكن “الحزب” رتّب لنفسه “دويلة” منفصلة تماماً، فلديه اقتصاده الموازي ومؤسساته الخاصة، وهو يتعامل مع الانهيار بخبرة نظام طهران مع العقوبات، سواء بالالتفاف عليها أو خصوصاً بالاستعداد لقمع كلّ احتجاج اجتماعي، وصولاً الى قاعدة “الموت في الحرب (أو ضحية القمع) أشرف من الموت جوعاً”، فلا خيارات أخرى. في 2006 كان الرئيس اللبناني اميل لحود تابعاً لمحور “الممانعة” ولم تكن الحكومة كذلك، بل استطاعت أن تدير الأزمة بما يحافظ على مكانة الدولة، إذ نسّقت داخلياً في مجمل تفاوضها الدولي وكان “الحزب” يتهمها من جهة بالتواطؤ ضدّه، ويلحّ عليها من جهة أخرى لتسريع خطوات وقف اطلاق النار، إلا أنه خرج من الحرب حاقداً عليها ومصمماً على تغيير القواعد الدستورية لقرار الحرب والسلم.
المختلف في 2022 هو أن النظام والدولة اللبنانيين تغيّرا على النحو الذي تريده إيران و”حزبها”، اعتماداً على أن الرئيس ميشال عون أكثر تبعية لمحور “الممانعة”، بفعل أحقاده ومصالح حاشيته، أما الحكومة فجُعلت مجرّد ديكور لا فاعلية له. في 2022 أصبح قرار الحرب في طهران، بلا أي منازع، وأصبح لبنان منطلقاً مؤهّلاً “لإشعال المنطقة” ولا يهمّ إيران أن تتسبّب أي مواجهة في تدميره، بل هي خطّطت منذ زمن لوصله مع سوريا المدمّرة في جبهة واحدة، مع ما يرفدها من ميليشيات متعددة الجنسية. وكما تمكّن “حزب إيران”، بعد 2006، من تعطيل مفاعيل القرار 1701 فإن طهران تريد هذه المرّة أن تفرض نفسها كـ “جهة مفاوضة” بدلاً من أي “حكومة” لبنانية.
لم تستطع إيران أن تحصل على هذه “الصفة” المباشرة في سوريا لأن روسيا تتقدّمها، ولا في العراق على الرغم من اتفاق “تقاسم النفوذ” مع الولايات المتحدة، ولا حتى بالنسبة الى اليمن حيث تحاول طرح تقاسم مماثل من خلال “الحوار” مع السعودية، أما في لبنان فتعتبر أنها نجحت في تقنين الأدوار الخارجية الأخرى، بما فيها دور نظام الأسد. وتتعامل طهران مع المتغيّرات الدولية، انطلاقاً من الحرب في أوكرانيا، وكذلك متغيّرات منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها مؤاتية لمحورها وخطّها، بل انها تستقبل الرئيس الروسي ليس بمثابة ردٍّ على جولة الرئيس الأميركي في المنطقة وحسب، وانما لتأكيد اصطفافها ومكانتها عضواً ثالثاً في الترويكا (الصين وروسيا وإيران). وهكذا فإن النظام الدولي يتغيّر، ومعه النظام الإقليمي والمنطقة العربية، ولا شك أن الصين وروسيا تريدان أن تبقى البلدان العربية الأربعة – ومنها لبنان – في المحور الإيراني.