عشية زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الى المنطقة، أطل الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله على اللبنانيين بخطاب أراده رسالة على ما يبدو بإسم محور الممانعة إلى المجتمعين في المنطقة، خاصة “قمة جدة للأمن والتنمية” التي جمعت الرئيس الأميركي بزعماء مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى قادة كل من مصر والأردن والعراق، لا سيما وأن الخطاب كان بمناسبة ذكرى حرب تموز 2006 التي كانت نقطة الانطلاق لتغيير الواقع اللبناني الذي استجد بعد إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وأدى إلى إنسحاب الجيش السوري بما كان يمثل من وصاية على السلطة والحكم في لبنان، لتأتي الحرب وما تلاها من تطورات داخلية من الاعتصام الشهير في وسط البلد، إلى أحداث 7 أيار 2008 وإتفاق الدوحة ومخرجاته، لتضع لبنان تحت وصاية جديدة بديلة هي الوصاية الايرانية المقنعة بقناع إتفاق مار مخايل بوجهيه الشيعي “حزب الله” والماروني “التيار الوطني الحر”.
كان الخطاب ذا لهجة عالية السقف عبر التهديد المباشر بالحرب والاستعداد للذهاب إليها إذا ما إستمرت المماطلة في موضوع ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، الذي وإن كانت كل المؤشرات والتصريحات الديبلوماسية الأميركية توحي بالإيجابية في صدده، إلا أن الرد الرسمي المكتوب على المقترحات التي سلمها لبنان الى الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين مؤخراً لم يرد بعد، في الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل بالاستعداد لبدء إستخراج الغاز من حقل “كاريش” ما شكَّل ذريعة لـ “حزب الله” لاطلاق ثلاث مسيرات “غير مسلحة” بإتجاه الحقل تزامنت مع وصول محادثات الدوحة بخصوص الملف النووي بين الولايات المتحدة وإيران إلى طريق مسدود، فكان أن تصدت لها إسرائيل وأسقطتها مع العلم بأن السيد حسن نصر الله كان قد أعلن في خطابه قبل الأخير الذي نحن في صدده بأنه يصطف خلف الدولة في موضوع الترسيم الأمر الذي يتناقض مع إطلاق المسيرات بعدها، خاصة وأن الحكومة اللبنانية بلسان رئيسها ووزير خارجيتها رفضا تبني عملية الإطلاق، ما يوحي بأنها كانت رسالة أبعد من قضية موضوع الترسيم وهو ما تأكد في الخطاب الأخير عشية زيارة بايدن الى المنطقة وإجتماعه بكل قادة المنطقة للتشاور بإستثناء لبنان وسوريا واليمن وهي المناطق التي لإيران اليد الطولى فيها، بحيث بدا وكأن الإجتماع موجه ضدها في ظل الحديث عن إنشاء “ناتو” عربي، وهو الحديث الذي ثبت عدم صحته بدليل عدم الاشارة إليه في كلمات القادة العرب ونفيه صراحة من وزير الخارجية السعودي بعيد القمة، اذ أكد أن هذا الموضوع لم يكن له أساس من البحث وكان مجرد إستنتاجات إعلامية.
هذه الأجواء التي سبقت مؤتمر جدة هي ما أضفت على الخطاب واللهجة التي صيغ بها كالتهديد بالحرب ومنع إستخراج الغاز وبيعه، صفة الرسالة الى اجتماع جدة، على الرغم من تغليفها بالحرص على ثروة لبنان وإبعاد الجوع عن شعبه جراء “الحصار” المضروب عليه بحسب إعتقاده، وكأنه يقول بلسان محور إيران الذي يسمى “محور المقاومة” أو الممانعة: نحن هنا، واننا جزء مهم ووازن من هذه المنطقة وأن ما يرسم لها يجب أن يحظى برضانا.
وما زاد من أهمية هذا الخطاب – الرسالة وخطورته أنه يأتي وسط هذه التطورات وفي ظل الظروف التي يمر بها العالم وأوروبا على وجه الخصوص جراء الحرب الروسية – الأوكرانية وحاجة أوروبا الماسة الى الغاز، ما يضع لبنان عملياً في صلب الصراع الغربي – الروسي وهي خطوة غير مسبوقة وغير محسوبة لا بل إنتحارية لم تقدم عليها صراحة أي من دول المنطقة، وتضع الدولة اللبنانية في مواجهة العالم الغربي مع ما يحمله ذلك من مخاطر أقلها تصنيف لبنان دولة معادية.
في حين يرى البعض في هذه الرسالة “رسالة صوتية” لا أكثر ولا أقل وتدخل في نطاق الحرب النفسية، وتعبّر عن المأزق الذي يعانيه هذا المحور عموماً، ولبنان و”حزب الله” خصوصاً بسبب الفشل في إدارة الدولة في ظل هذا العهد المحسوب على الحزب، وجراء الأحوال والظروف التي يعيشها والتي تخطت حدود الإنهيار لتهدد ببداية إضمحلال الدولة في ظل الاضرابات التي باتت تشمل كل قطاعات الدولة تقريباً، في وقت تعجز فيه القوى السياسية اللبنانية عن إجتراح حل لتشكيل الحكومة العالقة بين مطرقة بعبدا وسندان السراي بسبب وزارة الطاقة التي يصر “التيار الوطني الحر” على الاحتفاظ بها لتصبح كـ “مسمار باسيل” في الحكومة، بينما يمر الوقت وتضيق مهلة التشكيل مع إقتراب موعد نهاية هذا العهد والتي تبدأ عملياً في الأول من أيلول عندما يتحول مجلس النواب إلى هيئة ناخبة ما يشي بأن لبنان يتجه بسرعة نحو الفراغ في سدة الرئاسة الأولى، وكأن الفراغ بات جزءاً من الفولكلور أو التراث اللبناني، بحيث لم يعد يمر إستحقاق رئاسي بسلاسة ككل الدول الطبيعية ما يؤكد مقولة أن لبنان فعلاً تحول إلى دولة فاشلة في ظل حكم هذا العهد وعرابه الأساس “حزب الله”، ولا ينقصها سوى الاعلان الرسمي عن هذا الأمر.
إن الحديث عن “كاريش” في قضية ترسيم الحدود البحرية وما بعد بعد “كاريش” وهي التي تقع خارج المناطق التي يطالب بها لبنان أصلاً، يذكر بحديث مزارع شبعا البرية الذي ظهر إلى العلن بعد التحرير في العام 2000، والذي تحولت بموجبه هذه المزارع إلى “مسمار جحا” في ظل عدم تقديم سوريا الوثائق التي تؤكد لبنانيتها والتي تشملها قرارات الأمم المتحدة الخاصة بحرب 1967 حين احتلت وهي في عهدة النظام السوري، وهكذا تتحول “كاريش” اليوم إلى “مسمار جحا” بحري كان لنا أن نأمل كلبنانيين في أن يتم تحريكه و”مسمار” شبعا كورقة ضاغطة لمصلحة لبنانية في المفاوضات مع العدو لولا أن تحول لبنان كله ومنذ سنوات إلى ورقة على طاولة المقامرات الإقليمية لمصلحة محور لا يرى فينا سوى أكياس رمل يحتمي خلفها زمن الحرب، وجدران تحمل ملصقاته وشعاراته زمن السلم. على أمل أن تحمل بداية نهاية العهد، بداية جديدة للبنان وشعبه بعد ست سنوات عجاف كانت كفيلة بإيصال البلد إلى جهنم، بدل إستعادته أو على الأقل وقف إنحداره، فهل نحلم، أم أن الأوان قد فات حتى على الحلم؟ إن غداً لناظره قريب.