لم يعد لبنان وطناً نهائياً بالنسبة الى شيعة “حزب الله ” بل مقر موقت يستخدمه للانتقال الى ما هو أكبر من وطن وأصغر من امبراطورية.
ولم يعد اللبنانيون بالنسبه اليهم شركاء في صنع القرار، بل رعايا يتلقون ما يمليه عليهم حسن نصر الله من تعليمات وتوجيهات وخيارات وخرائط طرق، من دون أي مراعاة للمصلحة الوطنية المشتركة أو ما تفرضه الشراكة في سرائها وضرائها.
ولم يعد العرب “أشقاء” في المسار والمصير، بل كيانات سنية في معظمها يرى في بعضها ما هو أخطر من أميركا واسرائيل أو عقبات تحول دون انفلاش “الثورة الاسلامية” الايرانية، أو دون بناء هلال شيعي نووي، ما يعني أن الحرب عليهم تتخذ شكل “الجهاد” الذي يوازي أي جهاد آخر ضد اسرائيل وأميركا والمنظمات السنية الأصولية.
انه ليس فائض القوة كما يروّج البعض، انه الاقتناع الراسخ بأنهم أصحاب “رسالة سماوية” ممهورة بتوقيع رب العالمين، وأن الغلبة لن تكون الا لهم لا محال.
والواقع أن كل شيء تقريباً في مواقف “حزب الله” وتصرفاته وقراراته وردات فعله، توحي لمن يجيد القراءة بأن حسن نصر الله مأخوذ بهذه القناعة ويتصرف على أساسها متجاهلاً أي واقع آخر لا ينسجم أو يتماهى مع استراتيجيته المنشودة أو يتعارض مع التركيبة الديموغرافية الجديدة التي يعمل على بنائها حجراً فوق حجر.
والواقع أيضاً، أن “حزب الله” لم يعد مهتماً بموقع أي حيثية لبنانية سواء كانت سياسية أو دينية أو عسكرية، ولا يكن لأحد منها أي احترام أو يرى فيها أي خصوصية، أو يجد ما قد يخيفه أو يردعه أو يدفعه الى اعادة حساباته، معتبراً أن لبنان قبل انطلاقته في العام ١٩٨٢ كان أرضاً سائبة لم يصنع أحد تاريخها ولم يستشهد أحد من أجلها، وأن شعبها كان شعباً خانعاً أو مائعاً أو فاقعاً لا كرامة له ولا رأساً مرفوعاً.
والواقع أيضاً وأيضاً، أن نصر الله مأخوذ في صورة مطلقة بفكرة القيادة المطلقة، معتبراً الرئاسة الأولى من صنعه والرئاسة الثانية من لدنه والرئاسة الثالثة من مكرماته، والقيادة العسكرية في اليرزة وظيفة عبثية لا حاجة اليها أو على الأقل شكلاً من أشكال المؤسسات التي يمكن الاستغناء عنها في حرب الجبهات، والاعتماد عليها في حروب الشوارع التي لا يجرؤ على خوضها خوفاً من السقوط في ما يشبه الحروب الأهلية التي ربما لم يحن أوانها بعد أو التي لم تستكمل عدتها بعد.
وأكثر من ذلك، لا ترى “المقاومة الاسلامية” في المؤسسة العسكرية الا مقراً للاستخبارات الأميركية، ولا تتردد في اعتبار معظم ضباطها مجرد وكلاء يرتبطون بالأمن الأميركي أكثر مما يرتبطون بالصراع مع اسرائيل، وفي مقدمهم العماد جوزيف عون الذي يتقدم في السباق الى الرئاسة الأولى بدعم محلي وغربي وعربي.
وينقل عن مسؤول مقرب من الثنائي الشيعي تعليقاً على حظوظ قائد الجيش: “أعطونا عسكرياً واحداً يشبه ميشال عون وخذوا ما يحلو لكم من مكاسب وامتيازات وسلطات وحمايات…”. وليس سراً، أن ما ينطبق على القياديين في “حزب الله” ينطبق على كل عنصر من عناصره، ويضفي على لبنان جواً “يمطر شيعة” في كل موقع ونقابة وجامعة وفي كل مفصل أمني أو مالي أو حياتي، وجواً اجتماعياً وشعبياً فوقياً يؤكد للآخر أن الأمر له، وأن أي اعتراض أو مشاكسة أو انتقاد قد لا يمر من دون تحقير في مكان أو ترهيب في آخر، وأن كل مكان في لبنان هو قطعة أساسية من “جمهوريته الاسلامية” يفرض فيها تقاليده وشريعته وشروطه وتحفظاته ومحظوراته.
وما أصاب المطران موسى الحاج خير دليل على ما يجري في البلاد من مواقف هي أقرب الى الاستقواء الفج منه الى الانتقاد المقبول، وخير دليل على أن “حزب الله” تخلى عن منطق الخطوط الحمر أو عن منطق المقامات التاريخية، وبات يتعامل معها كما يتعامل مع أي كيان عادي أو أي كائن مكسور.
والغريب في عالم “حزب الله”، أن الأخير يعتبر نفسه خارج المساءلات وخارج الشبهات، هو الذي يوالي دولة تعاملت مع اسرائيل في ما يعرف بفضيحة “ايران غيت”، ومع دولة تعج بالعملاء الذين يساعدون الاستخبارات الاسرائيلية على تصفية علماء ايران وضباطها الكبار الواحد بعد الآخر، وعلى اقامة غرف استجواب داخل الجمهورية الاسلامية لمفاتيح أمنية تولت نقل أسلحة الى كل من العراق واليمن وسوريا ولبنان.
والغريب أيضاً أن طيارين حربيين من محور الممانعة لجأوا الى اسرائيل، وأن شبكات التجسس التي أحبطتها القوى الأمنية اللبنانية كانت مؤلفة في معظمها من عناصر أساسية في تركيبة “حزب الله” الأمنية، وأن عمليات بيع المخدرات في مقابل المال والمعلومات تسجل على طول الحدود مع الدولة العبرية، وأن الرئيس الذي يحظى ببركة كاملة وحماية مطلقة، هو ميشال عون الذي صافح يوماً ضابطاً اسرائيلياً أمام عدسات المصورين.
والغريب أيضاً وأيضاً، أن “حزب الله” تخلى عن غريزة الانتقام من “جلاد الخيام” عامر الفاخوري وتفرج على المروحية الأميركية التي كانت تنقله من عوكر الى البوارج الراسية قبالة الضاحية الجنوبية من دون أن يحرك ساكناً، ليقف اليوم متوعداً ومزمجراً في مواجهة مطران يحمل من الأراضي المقدسة مساعدات مالية وطبية وعينية لشعب يعاني أزمة اقتصادية يتحمل هو نفسه مسؤولية أساسية عن حدوثها وتفاقمها، من خلال تجويع شعبه كي يحيا شعب آخر.
وأكثر من ذلك، يتصرف “حزب الله” في قضية المطران موسى الحاج وكأن يده وقعت على كنز أمني ثمين، فيما الحقيقة التي يعرفها الجميع أن المقصود هو البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي يقود حملة متواصلة لتحييد لبنان عن محاور “حزب الله”، وانتخاب رئيس لا يدور في فلكه، محاولاً تمهيد الطريق أمام” القمصان السود” الذين يطلقهم في الأوقات الحرجة لانتزاع ما لا يستطيع انتزاعه بالوسائل الدستورية.
حتى الآن، اكتفى “حزب الله” بمواقف فجة من النائب محمد رعد وهاشم صفي الدين، مستهدفاً بكركي التي تشكل بالنسبة اليه العقبة الأقسى في طريق قيام الجمهورية الاسلامية اللبنانية.
وحتى الآن أيضاً، أسهم “حزب الله” في تحريك الغرائز المارونية التي تعتبر، على المستوى المسيحي، الشارع الوحيد المدعو الى المواجهة، وذلك ليس في الضرورة سعياً الى حرب أهلية حتمية بل الى خلق واقع يضع بكركي أمام واحد من ثلاثة خيارات: اما رئيس على غرار ميشال عون واما جمهورية على غرار ايران واما حرب أهلية.
لكن النيات شيء والوقائع شيء آخر، في وقت يجمع المراقبون على أن حسن نصر الله يلعب بالنار في صراعه مع بكركي، ويمشي بين ألغام تشبه تلك التي داس عليها في العام ٢٠٠٦ عندما دمّر لبنان كي يحرر سمير القنطار.
في تلك الليلة التي خطف فيها جنديين اسرائيليين قال نصر الله عن المسؤولين الاسرائيليين انهم جماعة من الحمقى ولن يجرؤوا على القتال، ليعود بعد شهر من الحرب ليقول: “لو كنت أعلم”.
في أي حال بكركي قالت كلمتها وتحولت رأس حربة ولو مرغمة، في مواجهة ما تعتبره احتلالاً ايرانياً بالواسطة، وانتقل الصراع مع الأحزاب المسيحية الى الكنيسة المارونية وكل من يقف خلفها في الداخل والخارج وفي مقدمهم الفاتيكان والعالم الكاثوليكي اضافة الى المعسكر الغربي الذي يرفض أن يتعرص الكيان اللبناني في الشرق لما تتعرض له أوكرانيا في الغرب.
في اختصار، لقد حرّك “حزب الله” وكر الدبابير في الشوارع المارونية والسنية والدرزية، وجعل كل لبناني يؤمن بحقيقة جوهرية تفيد بأن “المقاومة الاسلامية” لا تستطيع أن تقوم من دون ابتلاع لبنان، وأن لبنان لا يستطيع أن يبقى من دون انكفاء “حزب الله”.