لبنان واحد أو لبنانان أو عدة دويلات في وطن

لا ندرك في ظل أي دستور نعيش أو حتى في ظل أي نظام سياسي؟

31 يوليو 2022
لبنان واحد أو لبنانان أو عدة دويلات في وطن
وفيق ريحان
وفيق ريحان

بعد سقوط الامبراطورية العثمانية عند بداية القرن العشرين ومغادرة قواتها الأراضي اللبنانية والسورية، ودخول القوات الإنكليزية بقيادة الجنرال اللنبي و”القوات العربية” بقيادة الأمير فيصل بن الحسين إلى بيروت ودمشق، وبعدها انسحبت القوات الإنكليزية عن الساحل اللبناني السوري وقدوم القوات الفرنسية إليها، طالب التيار القومي اللبناني بإنشاء كيان لبناني مستقل (تيار مسيحي) يشمل جبل لبنان والسهول والسواحل المحيطة به، وحيث فوض مجلس الإدارة اللبناني البطريرك إلياس الحويك السفر إلى باريس على رأس وفد للسعي إلى تحقيق هذا المطلب وتأسيس هذا الكيان.

أما التيار القومي العربي (تيار إسلامي)، فقد رأى في دخول الأمير فيصل إلى دمشق وصداقته مع بريطانيا، الفرصة التاريخية لتحقيق حلم الاستقلال العربي عن طريق إنشاء دولة عربية كبرى، تشمل سوريا وفلسطين ولبنان كمرحلة أولية. وكلا التياران كانا يسعيان إلى التحرر من السيطرة العثمانية آنذاك.

ولقد سعى قادة التيار العربي برعاية الأمير فيصل إلى قيام دولة سورية عربية موحدة في مواجهة السيطرة الأوروبية أو الغربية (المسيحية) على أوطانهم.

أما المسيحيون، وبشكل خاص “الموارنة”، فكان انهيار السيطرة العثمانية يعني لهم نهاية السيطرة الإسلامية على الشرق المتوسط، وكان الاحتلال الفرنسي بالنسبة إليهم فرصة ثمينة للحصول على الاستقلال ضمن كيان مسيحي، تطغى فيه الأغلبية المسيحية على المسلمين ، برعاية دولة غربية، وكانت فرنسا هي الدولة المفضلة بالنسبة إليهم آنذاك.

وبين عامي (1918-1920) دخل التياران (القومي اللبناني والقومي العربي) مرحلة التنازع السياسي، بلغت أشدها عند اندحار الأمير فيصل عسكرياً أمام القوات الفرنسية في معركة “ميلسون”، وإعلان قيام دولة لبنان الكبير، من قبل الجنرال “غورو”، وحيث تولدت نقمة المسلمين على هذا الكيان، الذي كرس بنظرهم تقسيم سوريا الكبرى، وتكريس سيطرة الهيمنة المسيحية بواسطة الانتداب الفرنسي، وأقيم بين الفريقين المتنازعين جدار من عدم التفاهم، بين مسلمين يؤيدون العروبة ومسيحيين معادين للعرب والعروبة بتشجيع ومساندة من سلطة الإنتداب الفرنسي. واستمر هذا التناقض في المواقف فيما بينهما على امتداد أكثر من ربع قرن، جرى خلاله نشوء تيارات وسطية جاذبة بين الفريقين، شكلت صلة الوصل فيما بينهما حتى ولادة صيغة ميثاق العيش المشترك عام 1943، الذي أسس لقيام صيغة دستورية جديدة مختلفة عن دستور العام 1926 في عدد من بنودها.

لبنان وطن الأزمات منذ ولادته
إن لبنان هو وطن الأزمات المتتالية نتيجة لطبيعة الانقسامات الاجتماعية والسياسية الأفقية والعامودية منذ دستور العام 1926 حتى اليوم. في ظل نظام سياسي برلماني ديمقراطي حر يقوم على مبدأ التعاون والتنسيق بين السلطات الدستورية. وقد يكون هو الأمثل على مستوى أنظمة الدول العربية المعاصرة، لكن الاصطفاف الطائفي في صلب هذا النظام، واعتماد أسلوب المحاصصة الطائفية في تقاسم مواقع السلطة والتجاذبات الساخنة فيما بين الطوائف من وقت لآخر، كان مصدر الأزمات المتتالية والصراعات الدموية والعبثية التي أضعفت بنيانه، وأخرت تقدمه وتطوره السياسي والإقتصادي بصورة شبه دائمة. عدا عن التأثيرات الخارجية التي انعكست بصورة سلبية على أوضاعنا الداخلية من وقت لآخر. فمنذ نكبة فلسطين عام 1948، ودخول لبنان وسوريا والأردن ومصر في اتفاقية الهدنة مع العدو الاسرائيلي عام 49، والانفصال الجمركي عن سوريا عام 1950 مروراً بالحوادث الأمنية والسياسية عام 1958، ونشوء أزمة “بنك أنترا ” عام 1966 بعدما تصدر القطاع المصرفي في لبنان قائمة الدول العربية في ذلك الوقت،

ثم العدوان الإسرائيلي عام 1967، الذي تلاه أحداث العام 1972 المحلية والعربية فيما خص القضية الفلسطينية، وما رافقها من حوادث أمنية وانقسامات سياسية واجتماعية أسست لنشوب الحرب الأهلية عام 1975 بين أبناء الوطن الواحد وأججت السعار الطائفي والمذهبي إلى أقصى حدوده، ثم غزت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978(عملية جنوب الليطاني)، ثم الاجتياح الثاني عام 1982 الذي وصل إلى العاصمة بيروت، وما رافقه من تدهور للأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والإنسانية، وتأجيج حرب الجبل عام 1984 بين المسيحيين والدروز، وما نتج عنها من فرز للسكان وتموضع ديمغرافي ذات محتوى طائفي، واستمرار الحروب والحوادث الأمنية المتنقلة في مختلف المناطق اللبنانية بين قوى سياسية محلية مختلفة، على امتداد زهاء خمسة عشر عاماً، حتى العام 1990، حين انعقد مؤتمر الطائف في المملكة العربية السعودية برعاية أميركية وإعلان الوصاية السورية على لبنان، من أجل وضع حد للأحداث الدامية وتثبيت السلم الأهلي بإشراف دولي.

وحيث تم وضع دستور جديد للبنان ووثيقة للوفاق الوطني، وأدخل أكثر من ثلاثة وثلاثين تعديلاً على دستور العام 1943، ونشوء توازنات جديدة على مستوى السلطات الدستورية والصلاحيات الممنوحة لها، وحيث أنيطت السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء وفقاً للمادتين (17 و64) من الدستور الجديد، وقلصت صلاحيات رئاسة الجمهورية على هذا الصعيد، ليشترك معه رئيس الحكومة ومجلس الوزراء في تولي مهام وقرارات السلطة التنفيذية على أكثر من صعيد، ودخل لبنان في مرحلة جديدة سادها بعض الهدوء والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني حتى العام 2005، إثر حادثة اغتيال دولة رئيس مجلس الوزراء السيد رفيق الحريري في 14 شباط من ذلك العام، وخروج القوات السورية من لبنان، وحيث اتجه لبنان نحو المزيد من التدهور على الأصعدة كافة.

ولم تخل الفترات السابقة من الاعتداءات الإسرائيلية خلال عامي 93 و96، حتى خروج القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان عام 2000، وحصول عدة حوادث أمنية متكررة في مناطق مختلفة، وحصول “مؤتمر الدوحة” في دولة قطر، في محاولة للتوفيق بين اللبنانيين ودعم العجلة الاقتصادية وتثبيت الاستقرار الأمني.

ما بعد الطائف
لم ينجح لبنان منذ العام 1990 حتى اليوم، في ممارسة السلطة السياسية وتطوير الاقتصاد وحماية السلم الأهلي والخلاص من المديونية العامة بسبب الفساد السياسي والإداري والمالي، وعدم تنمية القطاعات المنتجة، وبسبب الاعتماد المتواصل على سياسة القروض والاستدانة من الداخل والخارج، مع استمرار نسبة العجز المرتفعة في الموازنة العامة بما لا يقل عن %38 بوجه عام، واستهلاك أكثر من مئة وعشرين مليار دولار أميركي من أموال المودعين، بالإضافة إلى أموال الخزينة العامة، فأنفقت الحكومات المتعاقبة منذ العام 1990 حتى اليوم أكثر من ثلاثماية مليار دولار أميركي، من دون أن تنجح في سداد القروض وفوائدها المتراكمة وتحسين ميزان مدفوعاتها، ومن دون أن تنجح أيضاً في تأمين احتياجات لبنان من الطاقة الكهربائية رغم تكلفة الإنفاق المرتفعة على هذا القطاع بما يتجاوز 40 مليار دولار أميركي حتى نهاية العام 2020، مما أدى إلى انتشار الفوضى والفساد على مصراعيه وصولاً إلى انتفاضة الشعب اللبناني في 17 تشرين الأول من العام 2019، وتدهور الأوضاع المعيشية بشكل مريع، وغياب الطبقة الوسطى كلياً وتحول قرابة %90 من اللبنانيين إلى فقراء أو محدودي الدخل. ومع تفاقم الأزمات، اضطرت الدولة إلى رفع الدعم عن غالبية السلع الضرورية والمواد الأساسية للأمن الغذائي والصحي والاجتماعي.

لقد اندثرت صيغة العيش المشترك للعام 1943، كما تهاوت صيغة دستور الطائف للعام 1990 ومن بعدها صيغة الدوحة، حتى أصبح لبنان يدار بأساليب هجينة تجمع ما بين دستور العام 43 ودستور العام 1990، وأحياناً من خارج الصيغتين المذكورتين. وتتعالى حالياً أصوات اللبنانيين من هنا وهناك مطالبة باعتماد الفيدرالية واللامركزية الإدارية والمالية الموسعة في إدارة السلطات المحلية، وهي بوجه عام توجهات مسيحية الطابع، وذات منحى تقسيمي ضمن الدولة الواحدة، في ظل تزايد الانقسامات السياسية والاجتماعية أفقياً وعامودياً، وأصبحنا اليوم لا ندرك في ظل أي دستور نعيش أو حتى في ظل أي نظام سياسي؟ لتطفو على السطح مجدداً الممالك أو الإمارات الطائفية برموزها الدموية البشعة لتتصدر مواقع السلطة من جديد بعد الانتخابات النيابية الأخيرة ودخول بعض رموز التغيير إلى الندوة البرلمانية بنسبة %12 كحد أقصى. فهل سيخطو لبنان مستقبلاً نحو الدولة المدنية القوية والمركزية مع لامركزية إدارية موسعة؟ وهل سوف ينجح لبنان في تخطي الاستحقاق الرئاسي المرتقب في شهر تشرين الأول المقبل بنجاح؟ وهل سوف يتمكن اللبنانيون من إعادة الثقة الدولية بدولتهم من أجل الحصول على المساعدات اللازمة والضرورية لتجاوز هذه المرحلة الصعبة؟ وهل سوف ينجح في التفاوض غير المباشر مع العدو الإسرائيلي في ترسيم الحدود البحرية بما يحفظ ثرواتنا الوطنية؟ أم أننا لم نتعلم بعد من دروس وتجارب الماضي التي دفع ثمنها اللبنانيون أثماناً غالية من أموالهم وأملاكهم واستقرارهم ومن فلذات أكبادهم، وحيث ينبغي حالياً إدخال التعديلات اللازمة في دستور الطائف في ظل مؤتمر وطني جامع، كما حصل عام 1936 في مؤتمر الساحل لنعيد بناء الوطن على أسس ومرتكزات متينة بعيداً عن الطائفية، وطناً سيداً حراً وموحداً، ونهائياً لجميع أبنائه.

المصدر المدن