يصح القول إن القمة التي عقدت مؤخراً في طهران تحت العنوان السوري، وجمعت قادة روسيا وإيران وتركيا، جاءت في الحقيقة، ومن حيث التوقيت، تلبية لتنامي حاجة الدول الثلاث الى تظهير “صورة” للعالم عن تعاونها وتعاضدها في مواجهة تداعيات قمة جدة، وما ينتظر الإقليم من ترتيبات واصطفافات بعد زيارة الرئيس الأميركي إلى المنطقة.
قيادة الكرملين التي باتت منبوذة أوروبياً بعد غزوها لأوكرانيا، تبدو أكثر الأطراف حاجة الى هذه القمة، إن لجهة كسر عزلتها السياسية وإقناع الذات قبل الآخرين، بأنها ما تزال تحتفظ بحلفاء أقوياء وبنفوذ جغرافي وسياسي يعوضها آسيوياً عن الخيار الأوروبي، وإن لجهة الإفادة من تلك القمة لتخفيف حالة الحصار الاقتصادي الشديد الذي فرض عليها غربياً، بل وللادعاء بفشل العقوبات الدولية في إضعافها والنيل منها، وبأن بعض أصدقائها، تركيا وإيران، يتمسكون بها، ويمدون لها يد العون كي لا تفلت من يدها ورقتا النفط والغاز التي تبتز بهما بعض الدول الأوروبية، خاصة مع تزايد قلقها من أن يشكل الغاز الإيراني بديلاً سريعاً لغازها، ما يفسر الاتفاقيات الكبيرة التي بادرت “غازبروم” الروسية إلى عقدها مع طهران، مثلما يفسر حرص قيادة الكرملين على مغازلة أردوغان وإرضائه، إن في وساطته بينها وبين كييف، وإن في صفقة تصدير الحبوب الأوكرانية، للإبقاء على خط استيراد حيوي مع تركيا يغطي بعض الاحتياجات والمستلزمات.
وفي المقابل، تحتاج إيران الى هذه القمة لتقوية موقعها في المفاوضات النووية مع الغرب إن كتب لهذه المفاوضات الاستمرار، والأهم للاطمئنان إلى تقريب الموقف الروسي من اشتراطاتها وهي التي عانت من حالة ارتياب مزمنة منه تجاه الاتفاق النووي، وفي الوقت نفسه تسعى الى توظيف هذه القمة للاستمرار في الالتفاف على العقوبات المفروضة عليها، ونيل بعض التنازلات الاقتصادية من روسيا، لقاء تعاضدها مع موقف موسكو في قضيتي النفط والغاز، بما في ذلك حفز الموقف الروسي لتجاوز حالة “التطنيش” تجاه الضربات العسكرية الإسرائيلية التي تطال ميليشياتها في سوريا، وكان آخر محطاتها القصف الجوي ضد مواقع مهمة للحرس الثوري وميليشيا “حزب الله” في قلب العاصمة دمشق.
ومع حاجة أردوغان الى هذه القمة في تثبيت خطوط التواصل الاقتصادي بينه وبين ايران وروسيا للهرب على المشكلات التي يعانيها اقتصاده جراء العقوبات الأميركية والتدهور المتسارع لسعر صرف الليرة التركية، فهو يراهن على القمة لتخفيف حالة الاضطراب والارتباك في سياسته الخارجية، بعد التنصل من التزاماته تجاه حلف الناتو، وهو عضو فيه، وما فرضه من عقوبات على موسكو جراء غزوها لأوكرانيا، والأهم استثمار تنامي أهمية دوره بسبب الحرب الأوكرانية لتمكين تواجد قواته في منطقة عفرين شمال سوريا، ولتوجيه ضربة جديدة الى أكراد شرق نهر الفرات، بما في ذلك ضمان إتمام دوره في انجاز اتفاق مبدئي بين القادة الروس والأوكرانيين لضمان تصدير 22 مليون طن من الحبوب، عبر البحر الأسود، ستكون حكومة أنقرة أكثر المستفيدين منه.
على الصعيد السوري وهو العنوان الذي عقدت القمة من أجله، فلم يحظ بالاهتمام المطلوب لإخراج هذا البلد من المستنقع الدامي الذي وصل اليه، ولم يسفر عن جديد نوعي اللهم سوى التأكيد على احياء المفاوضات التي أقرتها الدول الثلاث في الآستانة، لكن، هذه المرة، بنكهة روسية خالصة، وبتوافق الدول الثلاث على إبعاد الأمم المتحدة نهائياً عن دورها في الأزمة السورية، بدليل، دعمها للقرار الذي اتخذته روسيا برفض المشاركة في اللجنة الدستورية ووقف عملها ما دامت اجتماعاتها تعقد في جنيف للضغط على موقف حكومة سويسرا من الحرب في أوكرانيا، وأيضاً موقفها في مجلس الأمن بمنح فرصة أخيرة، عمرها ستة شهور، قبل استخدام حق النقض “الفيتو” لإغلاق المعبر الأخير الذي تمرر عبره المساعدات الأممية للملايين من المحتاجين والمتضررين السوريين. وفي حين لم يستطع أردوغان انتزاع ضوء أخضر تجاه عمليته العسكرية، بحيث تحسبت القمة من مغامرة قد تلحق أضراراً بالجميع وتفتح الصراعات من جديد على مصراعيها في المنطقة، فقد بادرت روسيا إلى الدعوة لرعاية محادثات أمنية غير علنية بين دمشق وأنقرة، ترمي للوصول إلى ترتيبات وتعاون بين الطرفين ضد ما يعتبرانه الارهاب الكردي في شرق البلاد، والتشجيع ربما على إحياء اتفاق أضنة الذي وقعته الحكومتان السورية والتركية عام 1998 ويسمح للجيش التركي بالتوغل في العمق السوري على طول الشريط الحدودي لملاحقة المقاتلين الأكراد.
والحال، على الرغم من التباينات في المصالح والحسابات بين أطراف قمة طهران الثلاثة، ثمة دوافع مشتركة للحفاظ على تحالفها ولإظهار تكاتفها، أولها، العداء لواشنطن، إن في مواجهة ما يشاع عن بقاء القوات الأميركية في سوريا لمواصلة الحرب على تنظيم “داعش” ولمراقبة الوجود الإيراني والتمدد التركي، وإن في مواجهة تداعيات العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية، التي تتصاعد، وإن بدرجات متفاوتة، ضد الدول الثلاث، وبدأت تخلف مشكلات وأزمات بعضها صار مستعصياً على الحل وقد يفضي في حالتي إيران وتركيا إلى ردود أفعال داخلية لا تحمد عقباها. وثانيها، تسويغ نهجها المشترك وحمايته في ضمان السيطرة والسطوة عبر أساليب القوة والقهر والإكراه، وعبر تهربها من مسؤولياتها عن الأزمات التي تعانيها مجتمعاتها والاستهتار بوسائل معالجتها الداخلية، بل والالتفاف عليها بافتعال صراعات خارجية لتحسين النفوذ الاقليمي، من دون الأخذ في الاعتبار أن الحروب الخارجية وشهية التوسع والاستئثار لن تجدي نفعاً على المدى البعيد وخاصة إن صارت نهجاً، وغالباً ما تفضي إلى عكس الأهداف المتوخاة وتدفع الأمور إلى درك مدمر، والدرس ما حل بالاتحاد السوفياتي بعد أن راهن على التفوق العسكري في تحصيل نفوذه العالمي، ثم بالولايات المتحدة الأميركية بعد حربيها في أفغانستان والعراق، لتؤكد الوقائع الدامغة والمؤلمة، أنه ليس بالقدرة العسكرية وحدها تبنى المجتمعات القوية، بل بمحصلة مختلف الوجوه التنموية، وتالياً بحكومات راشدة وزعامات مؤهلة لاحترام حريات الناس وضمان حقوقهم، وقادرة على معالجة أزمات مجتمعاتها من الجذور والنهوض بها، سياسياً واقتصادياً وعلمياً وثقافياً.