تهديدات نصرالله سعياً إلى مكاسب لمحوره… لكن ما كُتِب قد كُتِب!

1 أغسطس 2022
تهديدات نصرالله سعياً إلى مكاسب لمحوره… لكن ما كُتِب قد كُتِب!
 جورج حايك
جورج حايك

وصل ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل إلى نهايته، ولا شك أن الولايات المتحدة الأميركية تضع كل ثقلها لإنجاز هذا الملف من دون أي مشكلات، لكن لا بد من الاعتراف بأن استخراج الغاز من الشواطئ الاسرائيلية واللبنانية لا يتعلق بالدولتين فحسب، إنما له امتدادات اقلمية ودولية حسّاسة، قد تعيد خلط الأوراق وأهمها ما يتعلّق بالحرب الروسية – الأوكرانية والسعي الغربي إلى تأمين غاز بديل لأوروبا من اسرائيل، وقد تكون مصلحة روسيا عرقلة هذا الحل لمزيد من خنق أوروبا وحليفتها الولايات المتحدة، وبالتالي منع اسرائيل من ضخّ الغاز اليها.

يعلم الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله خلفيات الموضوع جيداً، وثمة أمور تبدلت بالنسبة إلى محور روسيا – ايران – “حزب الله” منذ بدء زيارات الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين إلى لبنان حتى اليوم، ولا أحد ينسى أن نصر الله نفسه أعلن في 22 تشرين الأول 2021 أن ترسيم الحدود البحرية والمنطقة الاقتصادية المتنازع عليها مع إسرائيل، أمر متروك للدولة، فماذا حصل حتى انقلب على مواقفه وباتت الدولة عاجزة بنظره، سامحاً لنفسه اتخاذ القرارات عنها؟

يعرف القاصي والداني أن “حزب الله” يتصرف في كثير من الأحيان على نحو براغماتيّ، وعلى الرغم من اطلاق نصر الله تهديداته في وجه اسرائيل وتحديده مهلة أواخر أيلول “في حال بدأ استخراج النفط والغاز قبل أن يأخذ لبنان حقه، فنحن ذاهبون إلى مشكل”، يُدرك أن الملف انتهى وزيارة هوكشتاين اليوم هدفها ابلاغ السلطات اللبنانية بأن إسرائيل ترحب باعتماد لبنان إحداثيات الخط 23 لحدوده البحرية الجنوبية لكنها تطرح مقابل القبول بحصوله على حقل قانا كاملاً اعتماد خط متعرّج نزولاً باتجاه هوف، أي أنّ الإسرائيلي يريد مقابل المساحة التي سينالها لبنان من حصوله على حقل قانا أن يحصل على المساحة ذاتها شمال الخط 23 من خلال اعتماد الخط المتعرج الذي يتيح لإسرائيل قضم جزء من البلوك رقم 8 بما يمنحها المساحة اللازمة لتسهيل مد أنبوب تصدير الغاز إلى أوروبا!.

قد يسعى الرؤساء اللبنانيون الثلاثة إلى كسب المزيد من الوقت في إحالة الملف على احياء المفاوضات غير المباشرة بين لبنان واسرائيل في الناقورة للبحث في التفاصيل، علماً أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وهذا دليل على أن هؤلاء لا يجرؤون على تخطي تهديدات نصر الله الساعية إلى تحقيق مكاسب لمحور الممانعة بدءاً من مصالح ايران وصولاً إلى مصالح “الحزب”!.

من المتوقع أن يستمر نصر الله في تهديداته خلال هذه المفاوضات التي من المتوقع أن تكون قصيرة، لأن اسرائيل تريد بدء ضخ الغاز إلى أوروبا قبل حلول فصل الشتاء، وبالتالي ما كُتِبَ قد كُتِبَ، وما يفعله نصر الله ليس سوى استدراج عروض لتحقيق مكاسب محلية لأن أي حرب لن تكون لمصلحته وخصوصاً أن ظروف سنة 2022 تغيّرت عن ظروف حرب تموز 2006 على كل المستويات، بل ستنتهي بقرار دولي شبيه بالقرار 1701 يمنع “الحزب” من التعرّض لحقوق اسرائيل في استخراج الغاز من “كاريش”، وسيكون لبنان الخاسر الأكبر مع جلب “حزب الله” الدمار والدماء والويلات إلى لبنان المنهار اقتصادياً ومعيشياً أصلاً.

لذلك ما يطمح إليه نصر الله هو تحقيق مكاسب مقابل أن يكون حامياً لأي اتفاق قد يحصل بين لبنان واسرائيل، ولو ضمنياً، فما هي هذه المكاسب؟

أولاً، يريد نصر الله الايحاء بأن سلاح “الحزب” أدّى إلى الترسيم واستخراج الغاز، وأنّ هذا السلاح يشكّل حاجة للبنان ومصدر قوة ضامنة لثرواته، وذلك في محاولة لاستعادة التفاف شعبي لم يعد موجوداً، وأظهرت الانتخابات النيابية أنّ مشروعه لم يعد مقبولاً لدى المسيحيين والسنّة والدروز، كما يريد الغاء مقولة أنّ الترسيم يُنهي الصراع مع إسرائيل على خلفية حاجة البلدين المتبادلة الى النفط والغاز، خصوصاً أنّ الشركات الأجنبية لن تستثمر إلّا بعد تقديم ضمانات بأنّ خيار الحرب لم يعد مطروحاً على الطاولة.

ثانياً، أراد نصر الله محاكاة الأميركيين والاسرائيليين من منطلق الفريق الذي يلوِّح بالقوة، ولكنه على أتّم الاستعداد لإنجاز التسويات والتفاهمات، وبمعنى من المعاني، أنّه بدوره لا يتعامل مع الأمر بمبدئية تامة انطلاقاً من عقيدته بـ”رمي إسرائيل في البحر”، إنما يتعامل أيضاً ببراغماتية على غرار تعامله مع القرار 1701 وحفظ الهدوء والاستقرار على طول الحدود بين البلدين، وهي رسالة للمستقبل بأنّ بابه غير مغلق للتسويات.

ثالثاً، وضع نصر الله مهلة لإنجاز الترسيم قبل أيلول، أي قبل بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، الهدف منه أن يطوي صفحة تحميله والعهد مسؤولية الانهيار المالي، وأن يعزِّز أوراقه الرئاسية باختيار الخلف من صفوفه على قاعدة أنّه مع استخراج الغاز لم يعد لبنان بحاجة الى المساعدات الخارجية.

رابعاً، يعتبر نصر الله أن أي انجاز على صعيد استخراج الغاز سيدفع بإتجاه فكّ ارتباط لبنان بالعالمين العربي والغربي في ظلّ حاجة البلد إلى المتنفّس الاقتصادي الخليجي وعن طريق صندوق النقد الدولي، حيث أنّ الترسيم، بالنسبة إليه، يمنح لبنان الذي يقبع تحت سيطرته، الاكتفاء الذاتي من دون الحاجة إلى المساعدات التي شكّلت وتشكّل نفط لبنان، والتي عندما توقفت دخل في انهيار ما بعده انهيار، ومع استخراج النفط والغاز لن يعود بحاجة إلى تلك المساعدات.

قد يكون فكر نصر الله صحيحاً ظاهرياً بإعتبار الثروة النفطية اللبنانية تشكّل ثروة حقيقية للبنان وجميع اللبنانيين، ولكن هل من مصلحة الشعب اللبناني ترسيم الحدود واستخراج النفط، في ظلّ سلطة “شفطت” أمواله وأهدرت مدخراته بسبب سياساتها الفاسدة؟ وماذا يضمن أن لا “تشفط” هذه السلطة العائدات التي سيجنيها لبنان من استخراج الغاز؟

قد يحقق “حزب الله” أهدافه بموافقة اسرائيلية وأميركية، فهما اعتادا على خطابات نصر الله الذي يصعِّد خطابياً ويلتزم بقواعد الصراع عسكرياً، وهو مضبوط تحت سقف القرار 1701، ولم يحرِّك الجبهة الجنوبية بصورة جدّية على الرغم من استهدافه المتواصل في مواقعه السورية، وكل همّ اسرائيل والولايات المتحدة حالياً إنجاز الترسيم والاستفادة من عائداته ومن “مومنتم” الحرب الروسية على أوكرانيا، ولن يضيرهما بشيء استفادة لبنان واستطراداً “الحزب”.

إذا حصل هذا السيناريو، سيتحوّل الترسيم إلى فرصة جديدة يلتقط عبرها “حزب الله” أنفاسه ويُعيد تجديد وتمديد إمساكه بمفاصل السلطة، بدلاً من أن يكون الترسيم مدخلاً لتسليم “الحزب” سلاحه الى الدولة اللبنانية وانتهاء دوره العسكري وقيام سلطة جديدة لا تتأثر بنفوذه ووهج سلاحه وتعيد تصحيح الانقلاب على الدستور وتُمارس السلطة بشفافية ونزاهة وتحقِّق العدالة والمساواة وتوقف الهدر والفساد.

والأخطر، إذا حصل كل ذلك بتشجيع أميركي وأوروبي وإسرائيلي، وفي ظل نأي الدول الكبرى باهتمامها عن لبنان وانشغالها بأزماتها الداخلية والخارجية مع الأزمة الأوكرانية، وكأنّ “حزب الله” انتزع على طريقة النظام السوري في العام 1990 تفويضاً بحكم لبنان.

لدى كثير من اللبنانيين قناعة بأن مصير الغاز لن يختلف عن مصير الأموال ومليارات المساعدات التي تبدّدت هدراً وذهب معظمها لتمويل مشروع حربي لا علاقة له بلبنان، والتهريب المفتوح على سوريا لمساعدة نظام متداعٍ، وكأنّ دولة صغيرة باستطاعتها تحمُّل أعباء مشروعي “حزب الله” والنظام السوري، فيما من الأجدى إبقاء هذه الثروة تحت المياه بانتظار سلطة شفافة تطبِّق الدستور، وأولويتها قيام الدولة الفعلية التي تكافح الفساد وتدار من نخبة تُحسن إدارة الدولة!

أمام هذا المسار الخطير، قد تكون لدى روسيا خيارات أخرى، وهو دفع “حزب الله” إلى عمل عسكري محدود في “كاريش”، بهدف عرقلة استخراج الغاز الاسرائيلي ووصوله إلى أوروبا، ولو كان ذلك على حساب استقرار لبنان وربما دماره وسفك دماء اللبنانيين على خلفية النزاع مع الولايات المتحدة وأوروبا، والمعروف أن حسابات الدول الكبيرة لا تأبه لشؤون الدول الصغيرة بل تضعها على مذابح التضحيات لأجل أهدافها الكبيرة. إذاً مهما كانت الخيارات في ملف ترسيم الحدود البحرية، قد يدفع لبنان الثمن وخصوصاً أن قراره الرسمي مصادر من “حزب الله”.

لا يمكن وصف ما يحصل سوى بكونه مؤامرة متجدِّدة على اللبنانيين الذين قدرهم أن يُحكموا من قِبل النظام السوري مقابل انخراطه في عملية السلام والحرب ضد صدام العراق، ومن قِبل النظام الإيراني مقابل الغاز الإسرائيلي وحاجة أميركا الى الترسيم وأوروبا الى هذا الغاز.

في ظلّ فجور محور الممانعة، لا بد من طرح السؤال: ما قيمة مواقع دستورية وحياة سياسية حكومية وبرلمانية وحزبية إذا لم تكن هادفة إلى تحرير الوطن الأسير من القبضة الإيرانية؟ ففي ملف ترسيم الحدود البحرية يبدو أن المسؤولين الرسميين ضعفاء، ينتظرون ارشادات نصر الله أو لا يقوون على اتخاذ قرارات تناقضها في ظل تغييب “حزب الله” للدولة وإبقاء لبنان ساحة مستباحة لطهران!

اننا على مسافة أسابيع من نهاية الترسيم البحري، وزيارة هوكشتاين اليوم ستضع خارطة الطريق النهائية لإتمامها، فهل تكون التسوية التي تفرضها الظروف الدولية والاقليمية على لبنان لمصلحة الدولة أو “الحزب”؟ الجواب سيكون واضحاً في الأسابيع المقبلة!