والسؤال عن حرب وشيكة بين إسرائيل و”حزب الله”، مع تواتر تبادل عبارات التهديد والوعيد بين الجانبين على خلفية تعثر مفاوضات ترسيم الحدود، ثم ما قاله مؤخراً قائد الحرس الثوري الإيراني بأن “حزب الله” يخطط لتوجيه آخر ضربة الى الكيان الصهيوني وازالته من الوجود، والأهم توقع تكرار سيناريو حرب تموز 2006 حين جاءت بعد الحرب التي شنها الإسرائيليون على قطاع غزة، بما يوحي بأن معركة إسرائيل في غزة اليوم ربما هي المقدمة لحرب إسرائيلية جديدة على الجبهة اللبنانية.
والحال، كي يستقيم الحديث عن فرصة وشيكة للحرب بين إسرائيل و”حزب الله”، يفترض وجود دافع قوي لاندلاعها عند الطرفين أو أحدهما على الأقل، ربطاً بانسداد سبل التخميد والتهدئة، وتوافر جهوزية واستعداد لتحمل تكلفتها، مادياً وبشرياً.
والحال، ثمة وجهتا نظر يجري تداولهما حول مدى احتمال نشوب هذه الحرب في المدى القريب.
ترجح وجهة النظر الأولى خيار الحرب، مستندة إلى أنها إحدى الأوراق المهمة التي يمكن أن تلجأ إليها إيران رداً على تشديد الحصار المطبق عليها، وتقدم احتمال فشل مفاوضات الاتفاق النووي، وربما كإجراء استباقي لما يثار عن استعداد إسرائيل لتوجيه ضربة الى البرنامج النووي الإيراني، عدا عن أن أصحاب هذا الرأي يجدون أنه أمر مألوف أن تلجأ الأطراف الاستبدادية المأزومة إلى افتعال حروب خارجية لربح الوقت والتهرب من معالجة الأسباب الحقيقية لأزماتها، وما يمكن أن يعطي هذا الخيار زخماً إضافياً في حالة “حزب الله”، حاجته اليوم الى تحقيق عدة أهداف ولنقل ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، منها توظيف أجواء الحرب وسلاح التعبئة لتعزيز الضبط الداخلي في لبنان تحسباً لانفلات شعبي ضد التدهور غير المسبوق في الحياة المعيشية، بما في ذلك التعويل على رص قاعدته الاجتماعية مع تواتر الإشارات الى امتعاض قطاع مهم من شيعة لبنان من استمرار زج أبنائهم في مسلسل حروب لا ينتهي، ومن تصاعد حالة الحصار والعقوبات على مؤسسات “حزب الله” ومرافقه الاقتصادية، وفي الطريق تحرير ذاته من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع والتنصل من مفاعيل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المجتمع والمرشحة لمزيد من التفاقم.
في المقابل، تجد وجهة النظر الثانية أن ليس ثمة دافع ذاتي ملح لإيران و”حزب الله” لافتعال حرب مع إسرائيل، فالأولى، وعلى الرغم من التهديدات النارية لقادتها وحلفائهم، ليست بحاجة ملحة وضاغطة الى افتعال الحرب، وهي الغارقة حتى آذانها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والعاجزة عن ادارة معركة واسعة من زاويتي أهدافها وتكلفتها، اللّهم إلا إذا اعتبر الأمر خيار اليائس الذي لم يبق أمامه سوى المغامرة لربح كل شيء أو خسارة كل شيء!. بينما يبدو “حزب الله”، وعلى الرغم من تهديداته الصاخبة، متحسباً من حرب جديدة قد تفضي في الظرف الراهن إلى عكس الأهداف التي يبتغيها، وربما الى تفكيك سيطرته المطبقة على لبنان واهتزاز نفوذه في سوريا والعراق، خاصة وأن إعادة إحياء الهموم الوطنية لضمان السيطرة لم تعد تطعم “خبزاً” وترد المجتمع إلى السكينة والخضوع، بل على العكس فالناس ملوا شعارات المواجهة والممانعة وعافتها نفوسهم وباتوا خير من يدرك كيف وظفت هذه الشعارات لتعزيز أسباب التسلط والاستئثار والقمع والفساد.
صحيح أن لإسرائيل حاجة تتنامى في هذه الآونة للنيل من “حزب الله” ومرتكزات طهران في المشرق العربي، ووضع حد لما تعتبره مستجدات نوعية عززت تهديد إيران وخطورتها على مصالح تل أبيب، الأمر الذي تعتبره خطاً أحمر وتطوراً خطيراً لا يمكن تمريره، أو السكوت عنه، لكنها لا تزال تفضل، الاكتفاء بالرد عبر غارات وضربات صاروخية ضد تمدد إيران في سوريا، طاولت مواقع مهمة للحرس الثوري وميليشيا “حزب الله” وعدد من رموزهما وكوادرهما، كي تحاصر أو تجهض تماماً مخاطر هذا التمدد على أمنها.
والأهم، أن دوافع الطرفين من الحرب العتيدة سوف تصطدم أساساً بنتائج قد تكون مؤلمة، والأهم بحسابات التكلفة والثمن الذي قد يكون باهظاً، والأهم بوجود مصلحة إسرائيلية مضمرة في استمرار حضور “حزب الله” وحليفته إيران في المشهد السياسي، إن لشل الحياة اللبنانية وتدمير فرص تقدمها، وإن لمحاصرة الأطراف العربية وإشغالها، تقابلها مصلحة مكشوفة لـ”حزب الله” وإيران في الاتكاء على بقاء التهديد الإسرائيلي لخلط الأوراق والهروب من أزماتهما وتبرير سياستهما التدخلية في شؤون المنطقة!.
واستدراكاً نسأل، إلى متى تبقى مجتمعاتنا تحت رحمة “قادة وزعماء” يستهترون بالحياة ولا يتقنون سوى منطق القوة واستخدام أكثر الوسائل وحشية وانحطاطاً لتثبيت الوضع القائم وتحقيق “انتصاراتهم” فلا يقيمون وزناً لأرواح الناس ولما شيّد من عمران عند خوضهم حروبهم أو صراعاتهم، مستسهلين التضحية بكل ما حولهم لقاء استمرار تسلطهم وامتيازاتهم؟
لم لا، ما داموا قد نصبوا أنفسهم بالقوة والإرهاب أوصياء على المجتمع وخياراته ونجحوا في تغذية الإحساس لدى الشعوب بأنها قاصرة أو دون سن الرشد، عاجزة عن اتخاذ القرارات السليمة وتحتاج إلى راع لمصالحها! ولم لا، طالما ليس مسموحاً لأي كان أن يسأل ويحاسب عن مردود ما دفعته الشعوب العربية وخاصة اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون، لقاء حروبهم المتعددة، وعن الجدوى مما يحل بمجتمعاتهم من خراب وضحايا، وكيف صرفت فاتورة الحروب اللبنانية أو السورية أو الفلسطينية! أو أن يسأل اليوم “حزب الله” مثلاً عن ضحالة ما أنجز في حروب لبنان لقاء ما قدم من الضحايا والخراب! فعندهم الردود جاهزة ومتنوعة، كالاتهام بالجبن والتخاذل، أو بعدم احترام حقيقة أن الشعوب لا بد أن تقدم تضحيات عظيمة لقاء تحررها، وربما بالمبالغة مثلاً في إظهار قيمة قتل الاسرائيلي أو أسره، حتى لو سقط مقابله عشرات الشهداء والجرحى، لنقف أمام مفارقة تدعو إلى الأسف والخجل في آن معاً عندما لا يقيم طرف أي وزن لحياة أبنائه ويجرهم إلى صراعات دموية كي يفاخر بإيقاع بعض الأذى والألم عند طرف آخر يقدر عالياً حياة مواطنيه!.
والحال، لا تقوم الإدارة الناجعة للحروب والصراعات على الاستهتار بحياة البشر وحقوقهم بل بتمثل دروس التاريخ جيداً والتطلع الى بناء مجتمعات ديموقراطية تحرر إرادة الانسان من طغيان الإيديولوجية وغطرسة المصالح الضيقة، كشرط لازم وحيوي لمواجهة مختلف التحديات، ومن دون ذلك ستبقى مجتمعاتنا كمن تدور في حلقة، لكنها ليست مفرغة، بل مليئة، في كل مرة، بالضحايا والآلام والمعاناة المجانية.