انها من المرات القليلة ربما التي لم يتأنّ وليد جنبلاط في خطواته وخياراته، مستنداً هذه المرة الى قراءات انفعالية أكثر منها منطقية، أو على الأقل خطوات ملتبسة تبدو في الشكل واقعاً ثابتاً، وفي المضمون واقعاً معقداً ومتقلباً…
ما فعله الزعيم الدرزي، من خلال التقرب أو الانفتاح على “حزب الله”، لم يكن كما اعتقد البعض، “ضربة معلم” بل مجرد محاولة لقلب الطاولة في وجه الجميع لأسباب قد تتوضح لاحقاً، ولم تكن في علم التحالفات نقلة مدروسة تحمل من المكاسب أكثر مما تحمله من الشوائب.
حتى الساعة يحاول المراقبون تحديد الأسباب التي دفعت جنبلاط الى التفاهم مع “حزب الله” في ظرف اقليمي دقيق لا يصب حكماً لا في مصلحة “المقاومة الاسلامية” ولا في مصلحة ايران، وفي وقت لا يبدو الثمن الذي يمكن أن يقبضه من تقارب كهذا، مضموناً أو وفيراً أو حتى كافياً.
ان أي تحالف مع “حزب الله”، له حساباته الخاصة وان أي انفصال عن أي تحالفات أخرى له أيضاً حساباته الخاصة، وهو أمر لا يزال المراقبون يحاولون فك الرموز وكشف الخفايا وتحديد نسب الخسارة والربح لدى فريق يبحث عن دور خاص، هو جنبلاط، وفريق يبحث عن أصوات راجحة، هو تيار “الممانعة”.
لا شك أن رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي”، قد خاطر بفقدان تحالفاته وتفاهماته وروابطه الخاصة والمميزة، مع كل من الولايات المتحدة والسعودية، والعالم السني والمجتمع الغربي، إضافة الى الكثير من أركان “الرابع عشر من اَذار”، وفي مقدمهم سمير جعجع الذي يحاول “تلطيف” لقاء كليمنصو، على الرغم من أنه يدرك في قرارة نفسه أن “حليف الجبل” قطع به حبل السعي الى الرئاسة الأولى لا بل القدرة على صنع رئيس وفق المواصفات التي يريدها.
وليس الاجتماع العاجل الذي عقدته السفيرة الأميركية دوروثي شيا مع جنبلاط عشية لقاء كليمنصو الا واحدة من التداعيات السياسية التي أثارها عشية الانتخابات الرئاسية، وليس كلام السفير السعودي وليد بخاري عن أموال قدمت الى أعضاء في “الرابع عشر من اَذار” وذهبت هدراً أو فساداً، الا اشارة لافتة الى تضعضع التيار السيادي وانقسامه على نفسه في مكان وعلى الرياض في مكان اَخر.
ولا نذهب بعيداً هنا الى حد اتهام جنبلاط بالطعن في الظهر، بل الى حد السؤال ماذا يمكن أن يكسب من تقربه المفاجئ والسريع من “حزب الله”؟
حتى الآن لا شيء ملموساً ولا حتى مضموناً، اذ ليس في استراتيجية “حزب الله” أو ثقافته تقديم أي خدمات مجانية أو رعوية، هو الذي يعرف أن المسايرات في المفاصل الدقيقة لا مكان لها في مشروعه العقائدي الأوسع، وأنه يملك من الأوراق ما يكفي لمنع أو تعطيل أي محاولة لانتخاب رئيس لا يدور في فلكه أو لا يخيفه على الأقل، سواء كان جنبلاط في صفها أو في صف أعدائها.
وجل ما أراده حسن نصر الله من تلقف مبادرة جنبلاط يتمثل في تعرية جعجع وعزله وتفكيك المعارضة والظهور بمظهر القادر على التواصل والوصول من غير سلاح، والرجل الذي لا يتلطى خلف ترسانته ويطلق النار على الجميع.
ويجمع الكثير من المحللين على أن لقاء كليمنصو، منح جنبلاط مقعداً متقدماً في مجالس “حزب الله”، في مقابل مقاعد متباعدة في المعسكرات الأخرى، على الرغم من مواقف ايجابية، من باب اللياقات، من البطريركية المارونية و”القوات اللبنانية” اللذين يعرفان في قرارة نفسيهما أن ما فعله جنبلاط انتزع المبادرة الراجحة من الفاعليات المارونية، على الرغم من المحاولة التي بذلها النائب تيمور جنبلاط لتهدئة أو طمأنة البطريرك بشارة الراعي في الديمان، وأقام بدلاً منه محوراً درزياً – شيعياً يتولى هو نفسه اختيار الرئيس العتيد.
وقد يقول قائل ان جنبلاط أراد من كل ذلك الحؤول دون وصول رئيس “ممانع” الى قصر بعبدا يكمل مسيرة ميشال عون، والمقصود سليمان فرنجية وجبران باسيل، لكن الحقيقة أن جنبلاط لا يريد أيضاً وصول رئيس سيادي لا يمكن التفاهم معه أو التحكم بكثير من قراراته، مراهناً على امكان وصول “رئيس رمادي”، لا يغيظ “حزب الله” ولا يهز أركان الجبل…
وهنا لا بد من سؤال بديهي:
هل يعطي “حزب الله” الزعيم الدرزي ما لم يعطه لسواه، وهل يأخذ جنبلاط من حسن نصر الله مكاسب خاصة لا علاقة لها بمغامراته في لبنان والمنطقة وما هو أبعد من ذلك؟
الجواب لم يتأخر كثيراً، اذ جاء من الشيعي المقرب من “حزب الله” والحرس الثوري هادي مطر الذي حاول تنفيذ فتوى الامام الخميني بقتل الكاتب البريطاني سلمان رشدي، ومن كشف خطط ايرانية لاغتيال مسؤولين أميركيين سابقين، ومنهم وزير الخارجية مايكل بومبيو ورئيس مجلس الأمن القومي جون بولتون انتقاماً لمقتل قاسم سليماني، اضافة الى مقتل عدد من أعضاء “حزب الله” في انفجار صاروخ محلي الصنع في اليمن.
وما أقدم عليه مطر أثبت أن “حزب الله”، من بين كل الشيعة في العالم، لا بل من بين كل المسلمين، غارق حتى رأسه في الايديولوجيا الايرانية، وأنه بات يد طهران في العالم والخطر الأكثر جدية اقليمياً وعالمياً، والرأس الأكثر عرضة لمقصلات الشرق والغرب معاً.
وهنا أيضاً لا بد من سؤال بديهي آخر، هل يعتقد وليد جنبلاط أن “حزب الله” قد تناسى ما حدث في معركة الجبل في “السابع من أيار”، أو أنه في وارد الشراكة مع أي طرف لبناني يحمل السلاح ويجيد استعماله؟
الجواب طبعاً لا… اذ ليس في استراتيجية حسن نصر الله القبول بوجود أي تنظيم مسلح في لبنان يمكن أن ينقلب عليه في أحد الأيام أو يشكل نداً له، حتى لو كان تنظيماً حليفاً، هو الذي يرفض حتى وجود جيش شرعي سواء سلحته أميركا أو ايران لا فرق.
لقد وضع وليد جنبلاط نفسه في مكان بائد لن يأخذ فيه من “حزب الله” أكثر من هدنة موقتة، وسط مخاوف من أن يخرج منها ذات يوم ليجد نفسه وحيداً في الجبل وزعيماً بلا حلفاء لا في الشارع المسيحي ولا في الشارع السني ولا حتى في الشارع الشيعي الذي يرى فيه مناوراً من الطراز الأول لا يمكن التكهن بمواقفه لا عندما يكون حليفاً ولا عندما يكون عدواً.
فهل يدرك الزعيم الدرزي أن التقرب من حسن نصر الله ليس أمراً لبنانياً محدوداً بالمكان والزمان، بل أمر يرتبط بمسار يمتد عميقاً من لبنان الى العالم ولا يمنح أنصاره أو الملتحقين به نعمة الاختيار بين ما يناسبهم أو لا يناسبهم فاما هذا أو ذاك، تماماً كما أصاب جبران باسيل عندما ظن أن التحالف مع “حزب الله” أمر يمكن التحكم به كما يشاء أو يتعامل معه على “القطعة” وليس الكل؟
وأخيراً هل يدرك جنبلاط أيضاً أن التقرب من “حزب الله” في هذه الفترة بالذات تشبه التحالف مع تيار لا يجيد الا كسب الأعداء، ومع لغم قابل للانفجار في أي لحظة بمن فيه وعلى من فيه، أم يمضي به قدماً في انتظار كلمة سر معاكسة قد تأتيه من رادار آخر يرصد ما يجري في العالم من زاوية أخطأ الرجل في تدويرها جيداً؟