حل ذلك الوقت من السنة مجدداً، ومثل كل سنة موج أخضر فاض في الطرقات، على وقع الأناشيد الحزبية لحركة “أمل”، تلتقي الباصات في الطريق فتسمع الهتافات والنداءات “بالروح بالدم نفديك يا نبيه”، صبّ الموج في مدينة صور، التي تمثل رمزية خاصة لجماهير الامام المغيب السيد موسى الصدر. جدد الحركيين الوفاء بعد سنتين من الغياب بسبب تفشي وباء كورونا، في ذكرى ٣١ آب التي تأتي هذه السنة متزامنة مع استحقاقات شاقة تنتظر البلد، من ترسيم الحدود، إلى دخول المهلة الدستورية للاستحقاق الرئاسي، إلى تشكيل الحكومة المعطل، وكما جرت العادة ينتظر اللبنانيون جردة حساب الرئيس نبيه بري السنوية في خطابه كل عام.
ويبدو أن “أمل” مستمرة في توجيه رسائلها الى من يعنيهم الأمر، ووفق مصادر حركية هي رسائل للعدو الصهيوني، كرد بسيط على التهديدات، وتحديداً في ملف ترسيم الحدود، بحيث كانت لافتة مشاهد التسلح للعناصر الحركية المنتشرة على الطرقات، ولم يقتصر الأمر على السلاح الفردي، وتشير مصادر الى أنه قد تشاهد عروض عسكرية لـ “أمل” في هذا الاطار.
لم يلبس بري قفازات في خطابه، وتحديداً حين تناول الاستحقاق الرئاسي، فنعى بكل بوضوح حظوظ كل من رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل في الرئاسة، وقال: “…ونحن مع بداية اليوم الأول بلشنا عالغميق هلق للمهلة الدستورية لإنتخاب رئيس للجمهورية، ومع بدء بروز المرشحين بين قوسين (الطبيعيين) لهذا المنصب وهذا حق طبيعي ومشروع، لكن ما هو ليس مشروعاً على الإطلاق أن يعمد البعض الى تصوير الأمر لدى اللبنانيين بأن نهاية الفترة الدستورية لأي سلطة هي نهاية للبنان ووضعه على شفير خطر وجودي، في حين أن الطبيعي هو أن تكون الإستحقاقات محطة أمل للبنان يعكس من خلالها الجميع الحيوية السياسية لإعادة إنتاج سلطاته وتطويرها بما يتلاءم مع التحديات”.
أضاف بري: “ما ليس مشروعاً على الإطلاق الاستسلام لبعض الإرادات الخبيثة التي تعمل بجهد حثيث ومضنٍ لإسقاط البلد ومؤسساته في دوامة الفراغ”.
وهاجم تصنيف اللبنانيين بين سيادي وغير سيادي، محدداً مواصفات رئيس الجمهورية الذي سيقترع هو وحركة “أمل” له، بالقول: “من موقعنا كسياديين، وما حدا يزايد علينا بالسيادة ويصنف الناس بين سيادي وليس سيادي، وكلبنانيين منذ كنا وكان لبنان سنقترع للشخصية المؤمنة بوحدة لبنان وعروبته التي يجتمع عندها كل اللبنانيين، سنقترع للشخصية التي تجمع ولا تطرح ولا تقسم وللشخصية التي توحد ولا تفرق، وللشخصية التي بقدر ما تحتاج الى حيثية مسيحية هي أيضاً تحتاج الى حيثية إسلامية وقبل هذه وتلك الحيثية الوطنية. سنقترع للشخصية المؤمنة بالثوابث الوطنية والقومية القادرة على مجابهة التحدي لا أن تكون هي التحدي لإرادة اللبنانيين، سنقترع ونعمل من أجل انتخاب شخصية تعتقد اعتقاداً راسخاً أن إسرائيل الرابضة على حدود وطننا في الجنوب ككيان وكمشروع عدواني تمثل تهديداً وجودياً للبنان وهي النقيض لدوره ورسالته في المنطقة”.
وفي ما اعتبر أقوى رسالة وجهها بري الى من يعنيهم الأمر، ذكّر من يحاول أن يتشاطر ويتذاكى بإعادة عجلة الزمن إلى الوراء، إلى ما قبل الطائف، بأن “لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية والمجلس النيابي هو المؤسسة الأم التي تمثل الشعب، وهو الوحيد المناط به تفسير الدستور وما تضمنه من أحكام لناحية مبدأ تداول السلطة، وأيضاً مسؤولية المجلس ورئيسه هو فرض التقيد باحترام المهل المحددة لإنتخاب رئيس للجمهورية والعمل لإنجاز هذا الإستحقاق”.
وشدد على أن “الإستحقاق الرئاسي استحقاقٌ دستوريٌ سياديٌ وطنيٌ بامتياز فلنجعله مناسبة نقدم فيه مصلحة لبنان على أية مصالح أخرى، مناسبة نؤسس فيها لقيامة جديدة للبنان الذي يمتلك كل مقومات النهوض وهو ليس بلداً مفلساً على الاطلاق”.
ولم يغب عن بري الشأن الحكومي، الاستحقاق المعطل منذ أشهر، مطالباً بتشكيل حكومة قادرة على مواجهة التحديات والأزمات. وهاجم مطالب رئيس الجمهورية ميشال عون بالحكومة، قائلاً: “اما المطالبة بـ 6 وزراء دولة، هول شو هني؟ خلينا نرجع لآخر تاريخ لحكومة الرئيس تمام سلام بـ 24 وزير، سنتين صار كل وزير رئيس للجمهورية، بدن يرجعونا لهيديك الايام؟ مش مكفينا اللي نحنا فيه؟”.
وانتقد العبث بالدستور والتمرد عليه، ممن يبحث عن اجتهادات غب الطلب تتواءم مع أهداف طرف من هنا أو تلبي مطامح طرف من هناك، ووصفهم بالمرشحين “الطبيعيين”، لافتاً الى أن “الطائف أو الدستور وُجد ليُطبّق. فلنحتكم اليه في مقاربة كل الإستحقاقات السيادية والقضائية، فهو أقصر الطرق التي تجنّب الوطن والمواطن المنزلقات الخطرة”.
وتطرق بري إلى ملف ترسيم الحدود، مشدداً على عدم التخلي عن حقوق الوطن. وانتقد عدم تنقيب الشركات الملزمة في المناطق غير المتنازع عليها، داعياً الوزارة المعنية إلى البحث عن شركات أخرى إن كانت من الشرق أو الغرب. كما أكد أن لبنان لن ينتظر الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين إلى الأبد، وأن الخيار العسكري مفتوح في هذا الملف من أجل تحصيل حقوق البلد.
كذلك لم ينس بري الشأن المعيشي، بحيث صب جام غضبه على سلطة الـ”ما خلونا”، وتحديداً وزارتا الطاقة والاقتصاد، قائلاً: “بالله عليكم، هل هناك بلد في الكون كله نسبة التغذية فيه من التيار الكهربائي صفر؟ هل هناك بلد في الكون تبدأ فيه أزمة الرغيف أو المحروقات ويعتقل فيها المواطنون لساعات وأيام في طوابير إذلال وتنتهي الأزمة ولا يعرف المواطن كيف بدأت وكيف انتهت؟ هل من أحد في هذه السلطة المختبئة خلف شعارات “ما خلونا” أن تجيب عن سؤال ما هي المبررات لعدم تشكيل الهيئة الناظمة للكهرباء؟ هيدي حارمتنا الغاز من مصر والكهرباء من الأردن وحارمتنا النفط من هون ومن هون، الهيئة الناظمة هي شرط من شروط البنك الدولي وشرط من شروط الغرب لعلها ذريعة، لكن لماذا لا تنفذ القانون الصادر منذ عشرات السنين؟ ما كانت تنفذ تصوروا أن الحجة لازم يتغير القانون بدل ما نطبق القانون، لازم نغير القانون بصفي كل ما صدر قانون بدك تغيروا بالأول، وبالتالي لماذا المجلس ولماذا التشريع؟ هذه الهيئة الناظمة استنزفت أكثر من ثلث مالية الدولة والدين العام لا أحد يصدق، وأكثر من ذلك عشرات القوانين، 74 قانوناً صادرة عن مجلس النواب ليست لها مراسيم تنفيذية وانا متأكد لو نفذت هذه القوانين لما كنا في هذا الوضع الذي نحن فيه الآن”.
وكان بري بدأ خطابه بهجوم قاس على من وصفهم بالغرف السوداء، قائلاً: “ليعذرني الحضور الكريم، كظمنا الغيظ كثيرأً وتجاوزنا كل الإساءات لكن اليوم في مقام الإمام الصدر ومن وحي قسمه نقول للقاصي والداني وخاصة لأولئك الذين تلتبس عليهم الجهات في كيفية مقاربة ماهية حركة أمل وناسها، فكرها وقوتها فيخطئون التقدير ويخطئون دائماً في فك شيفرتها ويمعنون في إطلاق العنان لسموم حبرهم ومخيلاتهم الجهنمية في الغرف السوداء. نذكر هؤلاء الكتبة بأنه في الخامس عشر من أيار عام 1974 وفي 17 آذار من العام نفسه لم يحل بين الامام ولقاء موج بحر الناس في صور وبعلبك، لا التهديد… ولا القتل… ولا الخطف… ولا قطع الطرقات وزرعها بالمسامير والعوائق الحديدية ولا عسس السلطة… ولا التخوين… واليوم وبعد أربعة وأربعين عاماً على جريمة الإخفاء لا نستغرب وكنا نتوقع دائماً أن ينبري من ينحدر من نفسه الى بث الشائعات والأضاليل والتشويش في محاولة جديدة وخائبة لفك عرى اللقاء مع الامام ونهجه وخطه وجماهيره وحركته مهما اشتدت الظروف ومهما بلغ الدس الرخيص من حقد دفين في عالم الواقع وفي الفضاءات الإفتراضية”.
ودعا بري الى أن لا يراهن أحد على خلاف بين حركة “أمل” و”حزب الله”، قائلاً: “لا يغرنكم وسائل تواصل كلو ضد كلو، ما حدا يراهن على خلاف بين الحركة والحزب، ما حدا يراهن على خلاف بين حركة أمل وحزب الله، ما حدا يخيط بهالمسلة هؤلاء أشداء على الأعداء رحماء بينهم”.