كتب أنطوني جعجع في “لبنان الكبير” مَن وضع تلك الملاحظات اللبنانية على اتفاق ترسيم الحدود البحرية في اللحظة الأخيرة؟ ولماذا فعل ذلك في وقت كان العهد يوشك التوقيع على انجاز جوهري هو الأول له منذ ست سنوات؟
في قراءة لتوزيع المواقع والمصالح لدى أطراف الاتفاق، يتبين أن “حزب الله” الذي يتلقى من التقارير ما يتلقاه الرؤساء الثلاثة، لم يكن غائباً عن تلك الملاحظات لا بل كان في صميمها، وأن رئيس الوزراء الاسرائيلي الموقت يائير لابيد كان المستفيد منها في شكل أو في آخر.
لم يكن “حزب الله” مستعداً للقبول، الآن على الأقل، باتفاق مع الدولة العبرية قد يجرّده من أحد مبررات الاحتفاظ بالسلاح، وهو المتوجس من احتمالين: احتمال تصاعد الموقف المتفجر في الداخل الايراني، واحتمال انتخاب رئيس للجمهورية لا يملك القدرة لا على تطويعه ولا على تسييره.
ولم يكن لابيد نفسه مستعداً للانطلاق بحملته الانتخابية المرتقبة وفي يده اتفاق يحمل في طياته “ألغاماً” تستخدمها المعارضة بقيادة بنيامين نتنياهو لاتهامه بالتقصير من جهة، والتفريط بمصالح بلاده من جهة ثانية، والاذعان لتهديدات حسن نصر الله من جهة ثالثة.
والواقع، أن “حزب الله” أراد من تلك الملاحظات شراء الوقت، في حين أراد لابيد شراء الأصوات، وأن الطرفين اتفقا مباشرة أو مواربة على أن المصالح الفردية في هذه المرحلة بالذات وتحديداً في هذا الوقت الضائع، تأتي قبل المصالح العامة حتى لو تدحرج الأمر الى مواجهة عسكرية قد تكون واسعة وقد تكون محدودة في المكان والزمان.
وما يؤكد تلك النظرية، التشدد اللافت الذي أبداه لابيد بعد تلقيه الملاحظات اللبنانية مرفقاً بتهديدات عسكرية موجهة الى “حزب الله” وأيضاً باطلاق عمليات الضخ من حقل “كاريش” ولو في صورة تجريبية، وكأنه يريد بذلك احتواء الحملة العنيفة التي يشنها ضده بنيامين نتنياهو، وإفهام الناخب الاسرائيلي أنه ليس الرجل الذي يجهل كيف يصون مصالح بلاده وثرواتها، وافهام حسن نصر الله أيضاً، أن التفاوض منعاً للحرب لا يعني أن ضرورات الحرب تفقد تواقيتها أو أسبابها أو ظروفها.
وثمة أمر آخر أراد لابيد الاضاءة عليه، وهو ضرب الاقتناع اللبناني الرسمي الذي يقول ان اسرائيل تستعجل الحصول على توقيع رسمي ما دام هناك رئيس لبناني في القصر، متخوفاً من الفراغ الذي يلوح في الأفق بقيادة قوى الممانعة التي تعتقد أنها تملك سلاحاً ماضياً لا بد أن يدفع اسرائيل الى تنازل يعتد به ويشبه تلك النشوة التي أعقبت “حرب تموز”.
لكن أجواء تل أبيب توحي بأن المسؤولين الاسرائيليين، ليسوا في وارد انتظار ما يقرره مجلس النواب اللبناني في الموضوع الرئاسي، معتبرين أن العالم لا يهمه من يسكن قصر بعبدا غداً، بقدر ما يهمه ما يسري في أنابيب الغاز من “كاريش” الى مدافئهم.
واذا كان للجانب الاسرائيلي أسبابه لتأجيل تواقيعه، فكذلك الحال بالنسبة الى “حزب الله” الذي يراقب بقلق كبير ما يجري داخل الشارع الايراني منذ ثلاثة أسابيع، معتبراً أن ايران التي تتعرض لحملة “خلخلة” تقودها الولايات المتحدة واسرائيل، قد تصبح في أي وقت في حاجة الى متنفس أساس، يأخذ الرأي العام الاقليمي والدولي الى مكان آخر قد يكون لبنان على الأرجح.
وهنا يرى المراقبون أن ايران تقف امام احتمالين، اما تمرير اتفاق الترسيم في مقابل تهدئة الشارع وحماية النظام الحاكم، واما عرقلة الاتفاق ووضع العالم المتهالك للحصول على الغاز الاسرائيلي على أبواب الشتاء، أمام مواجهة تعلق العمل في حقل “كاريش” وتدفع العالم الى احياء التفاوض مع طهران سعياً الى اتفاق نووي يلجم “ثورة الضفائر” ويفك العقوبات عنها ويعوّض على الغرب الطاقة الحيوية التي فقدها من حقول روسيا.
لكن السؤال يبقى، هل تنجح ايران و”حزب الله” في توجيه بورصة العالم كما يشاءان؟ وهل لا يزال العالم، بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، كما كان قبلها؟
الجواب طبعاً لا، فلا الاحتمال الأول ممكن ولا الواقع الثاني وهمي، اذ أن ايران تعرف أن أي مغامرة عسكرية غير مدروسة وفي هذه اللحظة الدقيقة بالذات ستكون أقرب الى الانتحار، ويعرف العالم أن أي تقاعس حيال بدائل الطاقة سيكون أقرب الى “الخيانة العظمى” لدى الرأي العام الغربي وتحديداً الأوروبي منه.
وفي سؤال آخر، ما هي الخيارات الممكنة والمحتملة في هذه الحال؟ والجواب يكمن في احتمالين: الأول استخراج الغاز بأي ثمن، والثاني استخراج الغاز في مقابل ثمن، فماذا يختار “حزب الله” واسرائيل؟ هل يختار الأول التفرج على تدفقات “كاريش”، من دون أن يستخدم سلاحه أم يتعرض لها للاحتفاظ بسلاحه؟ وهل يختار الثاني التمسك بالموقع السياسي في الداخل أم يختار التفرج على ثروة طبيعية هائلة لمجرد الخوف من صواريخ “حزب الله”؟
حقيقة جوهرية يعرفها حسن نصر الله وتكمن في أن ترسيم الحدود البحرية سيعني حكماً سقوط واحد من مداميك كيانه العسكري، وأن حماية “كاريش” في المدى الطويل لن تكون، في حسابات اسرائيل، ممكنة ما دام السلاح قائماً من أجل شبعا وتلال كفرشوبا في البر، ما يعني أن الخطوة الثانية ستكون العمل لترسيم الحدود البرية، وما يعني أيضاً أن “المقاومة الاسلامية” ومعها الجمهورية الاسلامية في ايران ستكونان أمام استحقاق استراتيجي آخر يضعهما في مكان يشكل في حساباتهما البعيدة المدى الرصاصة الأخيرة في قلب الهلال الممتد من طهران الى البحر المتوسط.
انه في اختصار حقل الألغام الذي يكاد لا ينتهي ما دام هناك من يحرص على زرعه، وما دام هناك من يدوس عليه.