اثبت مسار انجاز العصر التاريخي المتمثل باتفاق بيروت وتل ابيب على ترسيم حدودهما، البحرية متخطيا العداوة اللدودة والحروب الضروسة وبحر الدماء السائل بينهما، ان لا مستحيل تحت الشمس ولا نزاع الا وله حلوله بمنطق الحوار والدبلوماسية.
اتخذت الولايات المتحدة الاميركية قرارها وشغّلت قنواتها الخاصة، فكان لها ما تريد وسط تقاطع مصالح ثلاثي الابعاد، توَّجهُ اتصال الرئيس الاميركي جو بايدن بمن يلزم على الضفتين للتهنئة والتبريك، والاهم للتصدي لأي محاولة بمجرد التفكير بالعودة الى الوراء بعدما وافق الطرفان على صيغة اجترحها آموس هوكشتاين، العراب والوسيط، وسوّقها بجولاته المكوكية ضاغطا في اتجاه التوقيع قبل الانتخابات الاسرائيلية مطلع تشرين الثاني المقبل، بما يمكن ان تفضي اليه من تقلبات، وانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون تحسباً لفراغ رئاسي وحكومي لا يجد معه من يوقع لبنانيا على الاتفاق.
هي ايام قليلة تفصل عن تزييل الاتفاق بتوقيعين لبناني واسرائيلي قبل ارساله الى الامم المتحدة وحفظه كوثيقة هناك، وقد ذللت العقبات وتم تخطي المطبات والاعتراض على التنازلات من المعارضين على الضفتين، وآخرها بتته الحكومة الإسرائيلية المصغرة اليوم بتصويتها لصالح تمرير اتفاق ترسيم الحدود مع لبنان.
فماذا بعد؟ وهل يقف مسار الترسيم عند الحدود البحرية والمصالح الاميركية المفروضة في ضوء الحاجة الى استخراج الغاز والنفط سريعا لمدّ اوروبا، بهما بعدما ورطتها واشنطن في حرب “كونية” ضد روسيا تدفع القارة العجوز ثمنها غاليا جدا، لا سيما اثر قرار “اوبك بلاس” خفض حصص الانتاج وما استتبعه من توتر بين السعودية والولايات المتحدة؟ وما دامت الوساطة الاميركية فعلت فعلها بحرياً بالحوار والتفاوض السلمي، لماذا لا تستكمل برياً من اقصى جنوب الى اقصى شمال وشرق لبنان ليصبح دولة مرسّمة حدودها بالكامل ومعترف بها وموثقة في المنظمة الاممية كسائر الدول؟
شئنا ام ابينا، يقول مصدر سياسي معارض ومطلع على حيثيات ملف الترسيم لـ”المركزية”، وبعيدا من محاولة إبعاد شبهة التطبيع مع العدو الاسرائيلي،لا بدّ من الاقرار ان ترسيم الحدود البحرية فتح قناة مع اسرائيل لم يعد ممكنا اقفالها، اذ ان توقيع الاتفاق قد تكون له في مرحلة لاحقة انعكاسات وتداعيات غير مدرجة اليوم في الحسابات.
وما فرضه البحر من مصلحة مزدوجة قد يفرضه البرّ يوما ما، استنادا الى اتفاقية الهدنة، في الحدّ الادنى. ويردف: يدرك القاصي والداني ان احدى ابرز ازمات لبنان تتمثل في السلاح الذي يصنّف بالمقاوم للعدو الاسرائيلي في حين ما عادت الصفة هذه تنطبق عليه منذ سنوات طويلة، الا بالمواقف والتهديدات التي يطلقها امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، اول المهللين لاتفاق الترسيم بواسطة “الشيطان الاكبر” بعدما باع اللبنانيين موقف الردع بالايحاء ان تهديداته وبروفا مسيراته اجبرت الاسرائيلي على الرضوخ لشروط لبنان، متجاوزا القرار الاميركي الكبير بفرض الترسيم مهما كلّف الامر، وتنازل لبنان عن الخط 29 بما افقده اكثر من 1400 كلم هي حقه الذي اكده فريق التفاوض العسكري استنادا الى دراسات معمّقة وابحاث اجراها على مدى اكثر من عام واستعان خلالها بمكتب بريطاني متخصص في الشأن، هو من بين الاهم دوليا.
وتبعا لذلك، يسأل المصدر لماذا لا يستكمل لبنان بوساطة اميركية او روسية او غيرها من الجهات الدولية ذات القدرة والفاعلية، ترسيم حدوده كاملة جنوبا مع اسرائيل وشمالا وشرقا مع سوريا بما فيها مزارع شبعا المستخدمة ذريعة، لإضفاء المشروعية على السلاح غير الشرعي؟ علما ان القرار اذا ما اتخذ من السلطات اللبنانية العليا وتوافرت الارادة، قد يجد طريقه الى التنفيذ من دون ان يعني ذلك التطبيع الحكمي مع العدو.
اذا كان استخراج النفط والغاز سبيلا لانتشال لبنان من الهاوية ماليا، فالسبيل لانقاذه، مرسومة خريطة طريقه بدءا بحصر السلاح بالمؤسسة العسكرية الشرعية، بعدما انتقل وُضع سلاح الحزب اثر الترسيم البحري من حالة الـ” stand by ” الى “الخارج من الخدمة”، في ضوء الضمانات الأمنية المنصوص عليها في اتفاق الترسيم، ولو انها لحظت هامشا لحفظ ماء وجه الحزب من خلال المنطقة البحرية غير المحسومة وجهتها، الا اذا كان البعض ما زال يعتقد ان قوة الردع التي اوحى حزب الله انها خلف تحصيل مطالب لبنان في الاتفاق ستفعل فعلها ايضا حينما تدق ساعة الترسيم البري، وتدخل المنطقة عصر التسوية الكبرى وهي لم تعد بعيدة، تختم المصادر.
فهل يستغل لبنان اللحظة لانقاذ نفسه وعودته الى محوره العربي التاريخي الكفيل باعادة انعاشه واخراجه من كبوته،ام ان مقتضيات المحور التي اغرقته ما زالت توجب استخدامه ورقة حتى ذلك الحين؟