كتب زياد فواز ضاهر في لبنان الكبير السيادة مفهوم سياسي أسس لقيام مجتمع الدول، وفي سبيله شنّت حروب وقدمت تضحيات حتى الموت من أجل حمايتها.
دبَّج السياسيّون خطاباتهم وزيّنوها بمصطلح السيادة وكذا الأحزاب والنخب والمفكرون وحشدت الجماهير من أجلها كأحد المكونات الكيانية للدولة، وكأن السيادة شيء لا يمسه التغيير فأضحى أحد المقدسات في سلم القيم!.
الواقع غير ذلك تماماً، فالسيادة كما كل شيء يتأثر بالمتغيرات ويتغير كما كل شيء.
عند إستقراء التحولات التي حصلت للنظام الدولي بعد الحرب الباردة تظهر أنها ذات اتجاهين، أولها ذو طابع اندماجي كلاني خاصة على المستوى الاقتصادي أي “الاندماج المكثف”Deeper Integration ، والثاني ذو إتجاه تفكيكي من أهم مظاهره، حمى النزعة القومية التي لم تعرف الهدوء منذ استقلال الجمهوريات السوفياتية عام 1991 أي تآكل السيادة ([1]).
الاتجاهان ينتقصان من السيادة، فالعالم الاندماجي يقودنا الى عصر العولمة والكونية Globalisation وما فيهما من ضوابط دولية تبدأ من القانون الدولي، الذي أكد على السيادة وصيانتها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. الا أنه نظم أيضاً عملية التدخل وشرّعها في النص القانوني، كمفهوم التدخل الانساني الذي شنت حروب تحت عناوينه. كذا دور المؤسسات الدولية كالبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والكيانات الاقليمية والتخصصية الدولية مثل مجموعة الثمانية G8، ومنظمة “أوبك”. كلها تصنع سياسات يخضع العالم لها، فمثلاً تحدد سعر أي منتج يشتريه مواطن في أي دولة كانت ومهما كانت مقومات سيادة هذه الدولة، حتى وإن كانت دوله منتجة للبترول مثلاً فسعر المحروقات فيها ليس ملكاً لها مع أن الثروة النفطية تخضع لسيادة الدولة وقرار التصرف بها هو قرار سيادي انما تنازلت هذه الدولة طواعية عن سيادتها واتبعت الأسعار العالمية.
والاتجاه التفككي القائم على العصبية القومية الداعي الى الانفصال، يأكل من سيادة الدولة المركزية لصالح كيانات أصغر وأضعف في عالم ندرت موارده وأصبح الجميع بحاجة الى الجميع في المجالات كافة حتى في تأمين الغذاء. وما أزمة أوكرانيا الا دليلاً صارخاً على ذلك، بحيث تُعتبر رابع أكبر دولة مصدرة للقمح في العالم، وهي تنتج 42 في المئة من الانتاج العالمي من زيت بذور عباد الشمس و16 في المئة من إنتاج الذرة و9 في المئة من إنتاج القمح. وبسبب الحرب أصبح ذلك تهديداً للأمن الغذائي العالمي!.
إندلاع حرب في أوروبا الشرقية بين أوكرانيا وروسيا التي تبعد آلاف الكيلومترات أثر على دولة كلبنان وساهم في انجاز اتفاق بين دولتين في حالة عداء منذ العام 1948، فأنجز اتفاق ترسيم للحدود البحرية بين الطرفين لتسهيل استخراج الغاز وتزويد أوروبا بما تحتاجه من هذه المادة التي تشهد أزمة في تأمين حاجتها منه كأحد تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية.
في لبنان أيضاً يصول ويجول سفراء الدول المختلفة للتعامل مع أزمات لبنان المتراكمة، ويطرحون المبادرات ويعقدون المؤتمرات لجمع الأفرقاء اللبنانيين بهدف ايجاد الحلول. فهل هذا مسٌ بالسيادة الوطنية؟
الافتراض المبدئي يقول بإعتبار هذا الأمر تدخلاً في الشؤون الداخلية للدولة وهذا ما رفضه القانون الدولي، وكما أن لبنان بموقعه وأزماته الممنوعة من الحل للآن، فيما لو تعرض لانهيار كامل وذهبت الأمور الى احتراب داخلي أو فوضى لا تبقي ولا تذر فهل سيكون العالم بمنأى عن تداعيات هذا الانهيار؟
بناء على فرضية الفوضى إن حصلت، نذكر مسألتين، على سبيل الذكر لا للحصر، تشكلان تهديداً للأمن والسلم الدوليين في حال حصول سيناريو الفوضى:
- تزايد أعداد المهاجرين غير الشرعيين نحو أوروبا تحديداً، حيث تفيد “الدولية للمعلومات” بأن أعداد الذين غادروا لبنان منذ العام 2020 حتى العام 2022 نحو 1700 مهاجر من الشواطئ اللبنانية فيما يفوق العدد الآلاف عبر تركيا، وغالبيتهم سوريون من غير النازحين إضافة الى فلسطينيين. وتتصاعد وتيرة المراكب غير الشرعية المنطلقة من الشواطئ اللبنانية لتصل خلال الأشهر الثمانية الأخيرة الى نحو 30 رحلة([2]).
- إحتمال حصول توتر على الحدود الجنوبية مع اسرائيل وهذا ما عبّر عنه المسؤولون العسكريون الاسرائيليون، “أيدالجيش الاسرائيلي” ورؤساء المخابرات الاتفاق بقوة، فقد اعتبروا بصورة جماعية أنه لا يقلل من احتمالات الحرب فحسب، بل يوفر أيضاً دفقاً من الايرادات من شأنه تجنيب لبنان الانهيار الكامل. وهي حقيقة رأت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أنها تؤدي بالتأكيد إلى مزيد من عدم الاستقرار على طول حدودها([3]).
وعندما يتعامل السفراء ورؤساء الدول مع قوة سياسية وأمنية في لبنان مثل “حزب الله” فهل المسؤول عن ذلك هي الدولة اللبنانية الضعيفة أم دويلة “حزب الله” أم الدول الخارجية؟ الدول الخارجية عملياً تعاملت مع الطرف الأقوى لتضمن فعالية الاتفاق واستمراريته، و”حزب الله” حصد اعترافاً بدوره ووجوده واستحصل على ورقة قوة إضافية تتمثل في صيانة وضمان حسن سير تطبيق الاتفاق الذي شكل مصلحة للخارج والداخل، انما المستثمر الفعلي هم ثلاثة “حزب الله” و”الراعي الأميركي” و”العدو الاسرائيلي”. ونجد أن القوى السيادية والتغييرية كافة قد أعلنت تأييدها ومرّ الأمر مرور الانتصارات!.
عندما يتحرك السفراء باتجاه البحث عن حلول، بالطبع هم يبحثون عن مصالحهم، وفي حالة لبنان المصلحة تتمثل في منع الانهيار الشامل فيصبح التدخل كما التدخل الانساني الذي شرّعته الأمم المتحدة وهو استباق لوقوع المحظور.
ليس تبريراً لتحرك السفراء وتشريعاً للتدخلات الخارجية، إنما يجب أن تقال الحقيقة للناس لا أن نحشدهم على شعارات أصبحت خارج أرض الواقع وتخطاها الزمن. فالمساعي الديبلوماسية تأتي في السياق الطبيعي لما أصبح عليه العالم من تداخل وتشابك، فلم تعد سيادة الدول في العام 2022 تشبه سيادة الدولة الوستفالية التي ولدت عام 1648. فلا يدان سفير لتحركه بهدف منع الانهيار، بل المدان هم المسؤولون اللبنانيون العاجزون عن ايجاد حلول لأزمات بلدهم. فنحن في عصر التدخل الحتمي والباقي يتعلق بمدى تحصين الدولة أمام حجم التدخلات وهي مسؤولية الجميع وخاصة الأقوياء من القوى السياسية الداخلية.
هذا العجز المتراكم عن ايجاد الحلول، بل استيلاد الأزمات والعقد، حوّل البلد الى قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر وتسبب أزمات لدول أخرى، فليس الحرج على من يتدخل لمنع الانفجار بل علينا مراجعة أفاعيل ساستنا الذين بأفعالهم دفعوا العالم الى التدخل وأصبح المس بالسيادة صناعة وطنية.
([1]) أنظر: رباحي أمينة، قدسية سيادة الدولة القومية بين التفكيك والاندماج، جامعة الجزائر، كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، 2018.
([2]) جريدة النهار، إيطاليا هي الوجهة المفضّلة للهجرة غير الشرعية… والوصول إلى ألمانيا أولويّة، بتاريخ 23 أيلول 2022.
([3]) دينس روس، “عندما تبرز أخبار جيدة عن الشرق الأوسط، يجب إيلاؤها أهمية”، مقال نشر في موقع washingtoninstitute.org، تاريخ 19 تشرين الأول 2022.