قد تنقضي الثورة لكن أحلامها تبقى في وجدان الناس. وبهذا المعنى فإنّ انكفاء الجموع الشعبيّة عن ساحة 17 تشرين بعد 100 يوم من الحضور المكثّف أعطى إشارات عن هذا الانقضاء خصوصاً بعدما استفحل العجز ولم تتوفّر الثورة لازاحة المنظومة الحاكمة.
أسباب الانكفاء متعدّدة، منها ما يتّصل ببنية قوى التغيير حيث غابت الرؤية التي تحدّد مسار النضال الوطني وآلياته والاكتفاء بالشعارات التي تدحرجت من المطالب الاجتماعية الى سقوف سياسيّة لا تتلاءم وقدرات التجمّعات التي أفرزها الحراك، وقصورها عن إدراك أهميّة التوسّع الأفقي في إطار موحّد أو أطر قابلة للتنسيق وتحقيق العمل المشترك.
كذلك فإنّ أسباباً أخرى تكاد تكون ضئيلة المعنى لكن آثارها كانت بالغة التأثير منها الاختراق الذي حقّقه أحد طرفيّ السلطة في التجمّعات المناطقيّة أو التسلّق من الطرف الآخر لهذه السلطة، عدا عن الاعتداءات المباشرة التي لا تستطيع الجموع مواجهتها أو دفع عبء تكاليفها معنويّاً وجسديّاً.
حركة جماهيريّة من دون بوصلة أقرب إلى ردّات الفعل، منها السلطة التي تمسك الحكم منذ أكثر من ثلاثين عاماً، تمكّنت من توظيف كل أدواتها الميليشيويّة والدولة معاً ماليّاً ومعيشيّاً وسلوكيّاً ومن تحطيم إرادة الثورة وتهشيم أحلامها.
عاب الثورة هلاميّة جمهورها وهو متحرّك غير مستقرّ منها جماهير قوى السلطة على تعدّدها ثابت يتناقص أحياناً ويتناقض أحياناً أخرى لكن استقرّ على مواجهة غضب الشارع بسياسات الافقار المتعمّد وتفريغ مؤسّسات الدولة بما ينزع الصفة الوطنية للانتفاضة ويردّها الى هويّات فرديّة ملتبسة ما دون الوطنية الجامعة، ناهيك عن مظلّة الحماية التي أفردها السيّد حسن نصر الله فوق كل قوى السلطة بحيث ركن “حزب الله” الى جانب الفساد والذي يعرفه خوفاً من مجهول شعبي لا يدرك مداه. وبات الحزب حينها الناظم الفعلي لهذه السلطة وحامي فسادها وطغيان استباحتها لكل القيم الأخلاقية قبل السياسية.
عطّلت السلطة كلّ حوار أو تفاعل حرّ بين القوى المجتمعيّة ومنعت الذهاب الى انتخابات مبكرة خوفاً من نتائجها في ذروة الاحتجاجات وصولاً الى اعتقادها ويقينها أنّ الثورة انقضت الى غير رجعة، فكانت الانتخابات في موعدها ليست اختراقاً للمواعيد الدستورية بقدر ما كانت ادراكاً منها أنّ الانتخابات لن تفضي الى أيّة نتائج تخلّ بموازين القوى القائمة. لكن ما بقي من أحلام في وجدان الناس التي انتفضت وثارت والغضب الكامن بفعل عزّ الشارع ترجم في صناديق الاقتراع.
حصدت قوى التغيير 13 مقعداً بكل ظروف الانكفاء والعجز وبغضّ النظر عن قصور قوى الثورة عن انتاج لوائح موحّدة أو رؤية مشتركة. 13 نائباً كانوا تعبيراً دقيقاً لساحة الثورة بتنوّعها واختلاف مشاربها وتعدّدية أفكارها ومطالبها ورؤاها. اقترعت الناس لعنوان التغيير، لم تلتفت الى برامج أو حتى العناوين، كان صوتها ثأريّاً بالمكبوت من واقعها وبالكامن من أحلامها. أطلق هؤلاء النواب تكتّل التغيير مثل وليد يحبو، فيقع ويتعلّم من تجربته لأنّه فاقد لهويّته السياسية ولبرنامجه الوطني وجدوله التشريعي، واجهته استحقاقات داهمة وأخذت الغفلة الكثير منهم في سلوكهم أو خطاباتهم. زلّات كثيرة ومتعدّدة أقلقت الكثيرين لكنهم تعلّموا منها لتصحيح سلوكياتهم وأدائهم الفرديّ وعابهم التمترس وراء مشاريعهم الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية.
نجحوا فرديّاً وسقطوا جماعةً…
خطواتهم المتعثّرة أربكت جمهورهم وفتحت ثغرة أمام طرفي السلطة لاستهدافهم بحملات تشويه ليست الغاية منها النيل منهم كأفراد وإنّما تهشيم فكرة الثورة والتغيير. ومع كل استحقاق من انتخابات هيئة المجلس الى انتخابات رئاسة الجمهورية كانت الحملات تتزايد وبات نواب التغيير بين مطرقة الممانعة وحلفائها وسندان ما يسمّى المعارضة السياديّة… كلّ لغايته، الأول لتثبيت امساكه بالحكم والثاني لإدخالهم حظيرته وتحسين وزنه السياسي والاتفاق معاً على التفاوض حول رئيس توافقي لا لون له ولا طعم ولا رائحة.
وبعيداً عن طرفي السلطة وارباكات الشارع في نظرته الى تكتل التغيير فإنّ التجربة ليست فوق النقد، بل ضرورة لتصحيح مسار، وكما التجارب قابلة للنقد فإنّ الأدوار كذلك قابلة للتقويم شرط أن تكون جديّة وموضوعيّة. التجريح الذي تعرّض له التكتل تجنٍّ على فكرة التغيير وثورة 17 تشرين. كثيرون منّا حمّلوا التكتل فوق طاقته وقدرته.
تشويه التجربة اليوم ليس وليد صدفة، بل استمرار المنظومة منذ لاءات نصر الله الشهيرة بعيد انطلاقة 17 تشرين وهو تثبيت لمعادلة السلاح والفساد وتمكيناً للإثنين معاً من تأمين انحلال الدولة والاستيلاء على مستقبل هذا البلد وربطه بمنظومة إقليمية بعيداً عن هويته العربية. هذه الوقائع ليست للدفاع عن نواب التغيير وإنّما نقلها بدون تحريف منعاً لأيّة التباسات ومحاولة للتصويب تفرضها مصلحة لبنان بصورة ساحاته التي رسمتها أحلام الشباب في دولة مدنية وعصرية تستجيب لأحلام الناس في الأمن والاستقرار والتقدم وتتلاءم مع الحداثة التي لا تلغي الهوية الوطنية لأي شعب وأي بلد.
وفي ما يخص التكتل، فإنّ الانسلاخ عنه بدواعي الاختلاف يصبّ في خدمة المنظومة الفاسدة والقاتلة، وعليه فإنّ الاختلاف بمعنى التنوع داخل الوحدة ضرورة وطنيّة.
إنّ ما نطلبه من تكتل نواب التغيير بضع خطوات تمكّنهم من مواجهة المنظومة، فالوحدة مضادّة للانقسام وهي مطلب أساس لكل الذين ثاروا وملأوا الساحات حضوراً وثورة. وتتلخص هذه الخطوات في الآتي:
- إقرار برنامج مرحلي للتغيير وفق رؤية مستمدّة من أهداف ثورة 17 تشرين ومبادئها وقيمها.
- إقرار جدول تشريعي يستجيب لمتطلبات الأزمة العميقة التي يعيشها اللبنانيون على المستويات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية كافة.
- وضع نظام داخلي تتحدد من خلاله آلية صناعة القرار ديموقراطياً بعيداً عن حسابات التوازنات الداخلية بين أعضاء التكتل وإفراد مساحة حريّة في القضايا الفرعية وخارج البرنامج والجدول التشريعي.
- إدارة حوار مجتمعي مع مختلف مكوّنات ثورة 17 تشرين الذين ثبتوا في مواجهة السلطة وساهموا في وصول نواب التغيير الى قبّة البرلمان.
- الانطلاق بتوسيع الحوار المجتمعي على مستوى القواعد في مختلف البيئات الشعبية لبناء قاعدة ارتكاز تمكّن ثورة 17 تشرين من استعادة روحها كما في الاستناد اليها في كل المواجهات.
هذه واجباتكم… دفاعاً عن ثورة 17 تشرين والتزاماً بمبادئها، دفاعاً عن لبنان ومستقبله، عن أحلام الشباب وتوقهم الى الحرية والديموقراطية والعيش الكريم.