ثلاثة وثلاثون عاماً مرّت على إتفاق الطائف، الذي أُعلن عنه كوثيقة للوفاق الوطني، في مدينة الطائف السعودية في 30 أيلول 1989، وأُقرّ بقانون في مجلس النواب اللبناني في 5 تشرين الثاني من العام نفسه ليصبح دستوراً لما سمّي بالجمهورية الثانية، وكان نتيجة تضافر أو تقاطع عوامل داخلية وإقليمية ودولية، فشكّل الاتفاق خارطة طريق لوقف الحرب الأهلية التي استمرت زهاء خمس عشرة سنة.
وقد شهد لبنان منذ إقرار “الطائف”، تقلّبات وإنقلابات داخلية وإقليمية ودولية، حالت دون تطبيق إلّا جزءاً منه، وبإدارة سياسية سيئة، في حين بقيت الأجزاء الأهم منه عصيّة على التطبيق، خصوصاً بند إلغاء الطّائفيّة السّياسيّة وانتخاب مجلس نيابيّ خارج القيد الطّائفيّ، وإنشاء مجلس شيوخ يُراعي خصوصيّة الطّوائف، وإعتماد اللامركزية الإدارية.
وعلى الرغم من مضي كلّ هذه السنين، لا يزال “الطائف” موضع جدل ونقاش، لا بل صراع وإنقسام سياسي – طائفي حاد حياله، تضاعف وتعاظم مع تغيّر ميزان القوى في الدول المجاورة، بحيث هناك فريق يجهر برفضه ويطالب بالدعوة الى مؤتمر تأسيسي لإقرار عقد جديد بين اللبنانيين، مقابل فريق آخر يعتبر أنّ “الطائف” يشكّل ضمانة وطنية للبنان، ولا يزال حاجة وضرورة ملحّة لتجنيب لبنان الانزلاق مجدداً نحو حرب أهلية جديدة، وأنّ الأجدى هو تطبيق البنود غير المنفّذة، وبعدها يمكن إجراء مراجعة تقويمية شاملة له، كما يعتبر هذا الفريق أنّ المُشكلة لم تكن يوماً في “الطّائف”، بل في عدم تطبيقه.
مؤتمرات ووثائق قبل الطائف:
طُرحت خلال الحرب اللبنانية مجموعة من الأفكار والعناوين بشأن كيفية الخروج من الأزمة التي عصفت بلبنان، وترجمت صراعاً عسكرياً بين الأفرقاء المتخاصمين، صيغت بشكل وثائق وبرامج سياسية ودستورية، تحمل إقتراحات مختلفة ومتعدّدة وأيضاً متباعدة لإصلاح النظام اللبناني، وذلك بدءاً بالبرنامج الوطني للحركة الوطنية عام 1975، مروراً بالوثيقة الدستورية عام 1976، والوثيقة الدرزية عام 1983، والأوراق التي بحثت في مؤتمرَيْ جنيف ولوزان عامَيْ 1983 و1984، والإتفاق الثلاثي عام 1985.
غير أنّ جميع تلك المحاولات باءت بالفشل، ولم تتمكن من إنهاء الحرب، وبالتالي التوافق على صيغة جديدة للنظام السياسي ترضي الأطراف المتنازعة.
ولكن استُفيد من تلك الطروحات، كأوراق بحثية ومادة نقاشية خلال مؤتمر الطائف، بحيث يمكن الاعتبار أنّ وثيقة الوفاق الوطني صيغت بمنهجية تجميع وتوحيد القواسم المشتركة التي تضمنتها تلك الطروحات.
كيف ولماذا ولد “الطائف”؟
بالعودة إلى مرحلة ذروة الحرب اللبنانية التي سبقت الاتفاق، وفي توقيت سياسي خاطئ لم يأخذ في الإعتبار التحوّلات الإقليمية والدولية، قرّر الجنرال ميشال عون خوض مغامرة “حرب التحرير” المزعومة، التي اعتُبرت من أكثر جولات الحرب الأهليّة عنفاً ودماراً وتهجيراً، غير محتسب لتداعياتها الكارثية على لبنان، مما استدعى تدخّلاً عربيّاً (تحديداً سعودياً) إستثنائياً لإنقاذ لبنان، ولايجاد حلّ نهائي للحرب التي استنزفته، بحيث تُرجم هذا التدخّل تفاهماً سعودياً – سورياً بدعم أميركي، رافقته متغيّرات دولية بدأت تتبلور مع تفكّك الاتحاد السوفياتي.
ومع نضوج الظروف الدولية والاقليمية، لاسيما بين الادارة الأميركية والسعودية وسوريا، اتُخذ القرار التاريخي بإنهاء الحرب اللبنانية، وفوّضت السعودية رعاية حوار لبناني للتوصّل إلى التسوية الكفيلة بإنهاء الحرب.
وبالفعل نجحت المملكة ما بين ٣٠ أيلول و٢٢ تشرين الأول عام ١٩٨٩ في جمع النواب اللبنانيين في مدينة الطائف، حيث أقرّت وثيقة الوفاق الوطني، والتي أكدت هويّة لبنان العربية وجاءت بعدد من الاصلاحات في النظام السياسي اللبناني، وهو الذي أصبح فيما بعد دستوراً جديداً للجمهورية اللبنانية.
وحضر هذا الاتفاق إثنان وستون نائباً لبنانياً من أصل ثلاثة وسبعين، بحيث تغيّب ثلاثة منهم لأسباب سياسية، وهم ريمون إده وألبير مخيبر وإميل روحانا صقر، أما النوّاب المتغيّبون الخمسة الآخرون، فكان تغيبهم لأسباب غير سياسية.
أبرز بنود “الطائف” الإصلاحية:
صاغ إتفاق الطائف سياسيون وقانونيون لبنانيون مخضرمون، خبِروا السياسة بكل أغوارها وأسرارها، وهم من نسيج المجتمع اللبناني بكلّ تنوعاته المذهبية، عاشوا يوميات الحرب الأهلية ومآسيها. لذلك جاء إتفاق الطائف متكاملاً في تأسيسه للجمهورية الثانية، وتألف من أربعة محاور رئيسة:
– المبادئ العامة والإصلاحات:
نصّت فقرات هذا المحور على المبادئ العامة كتأكيد إستقلال لبنان وهويّته العربية وعلى نظامه البرلماني الديموقراطي.
كما تضمّن هذا المحور مجموعة من الاصلاحات السياسية التي اتفق عليها، كتوزيع مقاعد مجلس النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، إضافة إلى إصلاحات أخرى في مجالات مختلفة كالادارة والتعليم والمحاكم.
– بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية: نصّت فقرات هذا المحور على حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتعزيز قوى الأمن الداخلي والقوات المسلحة، وحلّ مشكلة المهجرين وتأكيد حقهم بالعودة إلى الأماكن الأصلية التي هجروا منها.
مع ضرورة الاشارة في هذا السياق، الى أنّه وبضغط سوري ومن خلفه إيراني، سمح لـ “حزب الله” بالبقاء مسلحاً بصفته “قوة مقاومة” بدلاً من ميليشيا، ودوره محاربة إسرائيل في الجنوب.
– تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي:
أكّد الاتفاق ضرورة العمل على تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425.
– العلاقات اللبنانية – السورية:
أكّد هذا المحور على العلاقات المميّزة التي تجمع لبنان وسوريا وأنّ لبنان لا يسمح بأن يكون ممراً أو مركزاً لأيّ نشاط يستهدف الأمن السوري، كما يؤكّد حرص سوريا على الأمن والاستقرار في لبنان.
كما أنّ الإتفاق حدّد إطاراً زمنياً للإنسحاب السوري، بحيث نصّ على أنّه يجب على السوريين الانسحاب في غضون عامين.
إذاً تضمن إتفاق الطائف حلولاً عملانية جذرية، لو طُبّقت بأكملها وفقاً لبرنامجها الزمني، لربما تفادى لبنان أزماته وإنقساماته المستمرة، التي تتجدّد مع كلّ إستحقاق، والذي ما يلبث أن يتحوّل إلى مأزق وأزمة بأبعاد ومندرجات سياسية ودستورية وميثاقية، خصوصاً وأنّ وثيقة الوفاق الوطني حاولت الدمج بين فكرتين أساسيّتين متناقضتين:
– ترتكز الفكرة الأولى، وقد إعتُبرت مؤقّتة، على ضرورة تنظيم علاقة المجموعات الطائفية بعضها مع بعض ومع الدولة في لبنان من خلال تعديل صلاحيات المؤسسات الدستورية بهدف تثبيت التوازن بين مختلف المجموعات الطائفية.
– أمّا الفكرة الثانية من اتفاق الطائف، وبقيت معلّقة من دون تطبيق، فتقضي بضرورة الانتقال إلى عقد اجتماعي جديد في لبنان يُنهي العقد بين الطوائف ويقيمه بين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
وبحسب وثيقة الوفاق الوطني، فإنّ ركائز هذا التحوُّل تكون عبر الشروع في إلغاء الطائفية السياسية، واستحداث مجلس الشيوخ، وإعتماد اللامركزية الإدارية، على أن تراعي اللامركزيّة خصوصيّة كلّ منطقة وتحقّق في الوقت نفسه الاندماج الوطني.
ماذا لو يطبق “الطائف”:
إنّ اتفاق الطائف لو يطبّق بكلّ بنوده ومندرجاته، فهو كفيل ببناء دولة مركزية عميقة، تبسط سلطاتها على كامل الأراضي اللبنانية، وإطلاق عمل المؤسّسات والسلطات، وبالتالي تكون قادرة على أن تحتضن جميع أبنائها، وتشكّل الملاذ الآمن لهم، وتلبي طموحاتهم وتطلعاتهم في أن يكون لبنان وطناً نهائياً لهم، ويبعد عنهم شبح الهجرة نحو المجهول.
غير أنّ اللافت في هذا الإطار، هو أنّ لا المدافعون عن اتفاق الطائف جدّيّون في العمل على تطبيق بنوده كافّة، ولا المتشكّكون فيه يريدون نقاش هذه النقاط، فيما قوى التغيير تائهة ما بين أضواء الشارع الذي لم تغادره، ونشوة ما بعد الوصول إلى ساحة النجمة!.
يبقى الضمانة الوطنية:
ويبقى السؤال المركزي: هل أنّ اتفاق الطائف سيبقى دستوراً للجمهورية اللبنانية؟
عوامل عدة داخلية وخارجية هي المتحكّمة في هذا المسار والمصير، وما سوف تؤول إليه الأوضاع في المنطقة، وانعكاسها على طبيعة النظام اللبناني، وهي التي ستحدّد مصير اتفاق الطائف ومسار الجمهورية الثالثة، بالإضافة إلى تغيّر موازين القوى في الداخل اللبناني مع نزف ديموغرافي كبير لمكوّن أساس في البلد، وفائض قوة لمكوّن آخر، وانهزام وإحباط للمكوّن الثالث.
ومهما أُثير من جدل حول اتفاق الطائف، وطرحت بدائل عنه، فإنّ الثابت أنّه ما يزال الضمانة الوطنية إذا ما نفذت كلّ بنوده للكيان اللبناني بتناقضاته المعقدة.